بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
ما زلنا نتحدث عن ظاهرة العنصريّة التي انعكست في مختلف أشكال التعبير الإنساني، ولا سيما الأدب والشعر. والشعر العربي، بوصفه ديوان العرب ومرآة لحياتهم وثقافتهم عبر العصور، لم يكن بمنأى عن تصوير هذه الظاهرة، سواء من خلال التعبير عن مُعاناة من وقعت عليهم العنصرية، أو من خلال ممارستها في الخطاب الشعري نفسه.
في العصر الجاهلي، كان هناك تمييز على أساس اللون؛ حيث كان السواد يعد عيبًا ونقصًا، وتمييز على أساس النسب؛ إذ كان الانتماء إلى أَمَةٍ من الإماء يُعد وصمة عار تلاحق الشخص مهما بلغت مكانته وإنجازاته. وقد عانى من هذا التمييز العنصري عددٌ من الشعراء في العصر الجاهلي، لعل أبرزهم عنترة بن شداد، وخفاف بن ندبة، والسليك بن السُلَكة، الذين وصفوا في الشعر الجاهلي ب"الأغربة" تشبيهًا لهم بالغراب الأسود، في إشارة عنصرية واضحة إلى لون بشرتهم.
ويعد عنترة بن شداد أبرز نموذج للشاعر الذي عانى من العنصرية في العصر الجاهلي. ولد عنترة في نجد في القرن السادس الميلادي لأب عربي من وجهاء قبيلة عبس هو شداد بن قراد، ولأم حبشيةٍ كانت أَمَةً لشداد، أطلق عليها لقب "زبيبة" على سبيل التحقير والاستصغار. وبسبب هذا الأصل المُختلط، عانى عنترة من التمييز العنصري؛ حيث أنكره أبوه ولم يعترف به كابن له، وعامله كعبد من عبيده.
نشأ عنترة في هذه البيئة القاسية، وتفاقمت معاناته عندما أحب ابنة عمه عبلة بنت مالك؛ فتعرض للاضطهاد بسبب تجرؤه على التطلع إلى ابنة الأسياد. ولم يحصل عنترة على حريته واعتراف أبيه به إلّا عندما اندلعت الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان، المعروفة بحرب داحس والغبراء؛ حيث احتاجت القبيلة إلى شجاعته وقوته في القتال. وفي هذا السياق، يروى أن عنترة رفض القتال قائلًا: "العبدُ يحسنُ الحلاب والصر، ولا يحسن الكر والفر"، فقال له أبوه: "كر وأنت حر"، وهكذا نال حريته واعترف به أبوه.
حمل شعرعنترة بن شداد صدى معاناته من العنصرية، وقد عبَّر في قصائده عن هذه المعاناة بصور متعددة، تارة بالشكوى المباشرة، وتارة بالفخر بالذات وإثبات القدرات والمناقب التي تفوق بها على أبناء قبيلته من ذوي الأصول النقية. ومن أبرز الأبيات التي تعكس معاناته من العنصرية قوله:
يعيبون لوني بالسواد وإنما // فِعَالهُمُ بالخبث أسودُ من جلدي
في هذا البيت، يرد عنترة على من يعيبون لونه الأسود بأن أفعالهم وأخلاقهم أشد سوادًا من لون بشرته، في إشارة إلى أن السواد الحقيقي هو سواد الأخلاق وليس سواد البشرة.
ومن أبياته الشهيرة أيضًا:
لئن أكُ أسودا فالمسك لوني // وما لسواد جلدي من دواء
ولكن تبعد الفحشاء عني // كبعد الأرض عن جو السماء
هنا يُقر عنترة بسواد لونه، لكنه يشبهه بالمسك الذي يجمع بين السواد والطيب، ويؤكد أن ما يميزه ليس لونه؛ بل أخلاقه النبيلة التي تبعد عنه الفحشاء والرذيلة.
ومن الأبيات التي تكشف عن التناقض في موقف قبيلته منه قوله:
ينادونني في السلم يا ابن زبيبة // وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب
إذ يشير عنترة هنا إلى النفاق الاجتماعي؛ حيث ينسبونه في أوقات السلم إلى أمه الأمة "زبيبة" في إشارة عنصرية واضحة، بينما ينسبونه في أوقات الحرب والقتال إلى الأطايب من قومه، أي إلى أبيه وعشيرته، عندما يحتاجون إلى شجاعته وقوته.
ومن أبياته الشهيرة أيضًا:
تعيّرني العدا بسواد جلدي // وبيض خصائلي تمحو السوادا
وقوله:
شبيه اللّيل لوني غير أنّي // بفعلٍ من بياض الصّبح أسنى
في هذين البيتين، يقر عنترة بسواد لونه، لكنه يؤكد أن خصاله وأفعاله البيضاء تمحو هذا السواد، وأنه رغم تشبيه لونه بالليل، فإن أفعاله تشبه بياض الصبح وضياءه.
وقد واجه عنترة العنصرية التي تعرض لها بأسلوبين رئيسيين: الأول من خلال شعره الذي عبر فيه عن معاناته وأكد فيه على قيمته الإنسانية وفضائله التي تفوق بها على أقرانه. والثاني من خلال فروسيته وشجاعته في ساحات القتال التي أثبت بها جدارته واستحقاقه للاحترام والتقدير.
ففي شعره، يشكو عنترة من العنصرية ضده، إلا أنه لم يكتفِ بالشكوى، وإنما تجاوزها إلى الفخر بالذات وإثبات القدرات والمناقب. فقد فخر بشجاعته وكرمه وعفته، وهي صفات كانت محل تقدير في المجتمع الجاهلي. كما استخدم شعره للدفاع عن حقه في حب ابنة عمه عبلة، متحديًا بذلك الأعراف الاجتماعية التي كانت تحرم على من هم في وضعه الاجتماعي الزواج من بنات الأسياد.
أما في ساحات القتال، فقد أثبت عنترة شجاعة فائقة وقدرة على حماية قبيلته، مما أكسبه احترام قومه واعترافهم به. وقد استطاع من خلال فروسيته أن يغير نظرة المجتمع إليه، وأن يحصل على مكانة مرموقة بين أبناء قبيلته، رغم أصله المختلط.
وهكذا، مثل عنترة نموذجًا للإنسان الذي استطاع أن يتحدى العنصرية ويتجاوزها من خلال إثبات ذاته وتأكيد قيمته الإنسانية، حتى تجاوز صيته عصره، ليعبر التاريخ، حيث أصبحت قصته رمزًا للنضال ضد التمييز العنصري والظلم الاجتماعي.
لم يكن عنترة بن شداد الشاعر الوحيد الذي عانى من العنصرية في العصر الجاهلي، فقد عانى منها أيضًا شعراء آخرون، منهم خفاف بن ندبة والسليك بن السُلكة، اللذان وصفا مع عنترة بـ"الأغربة" بسبب لون بشرتهم السوداء.
خفاف بن ندبة، واسمه خفاف بن عمير السلمي، كان شاعرًا وفارسًا من بني سليم، وكانت أمه أمة سوداء تدعى ندبة، نسب إليها. وقد عانى خفاف من التمييز العنصري بسبب لون بشرته وأصل أمه، لكنه استطاع أن يثبت نفسه كشاعر وفارس، وأن يكسب احترام قومه.
أما السليك بن السُلكة، فكان شاعرًا وعداءً من أشهر صعاليك العرب في الجاهلية، وكانت أمه أمة سوداء تدعى السُلكة، نُسِبَ إليها. وقد عانى السليك من التمييز العنصري بسبب لون بشرته وأصل أمه؛ مما دفعه إلى حياة الصعلكة والتمرُّد على المجتمع القبلي.
وتُظهر تجربة عنترة ورفاقه أن العنصرية كانت واقعًا حاضرًا في المجتمع الجاهلي، لكنهم واجهوها بمقاومة واعية عبر الشعر والفروسية. عبّروا عن معاناتهم وأكدوا بقيمهم وشجاعتهم قدرتهم على تجاوز التمييز وفرض مكانتهم، فكانت أشعارهم شهادة على كرامة الإنسان حين يتمسك بحقه في الاعتراف والاحترام.