زكريا الحسني
الأجواء مفعمة برياح الصمود الذي انقلب إلى نصر، صمود المقاومين والمناضلين في غزة ولبنان واليمن والعراق، رغم كل الدماء وكل الجراح وكل التضحيات من حصار وجوع وبرد وفقدان الناصر. والتاريخ يحتفي بكثير من تلك القصص والملاحم التي ما زالت أحداثها شاهدة على تلك الحقبة الزمنية التي أبدلها النضال في سبيل الحق إلى صفحات تحكي عبرا ودروسًا وقِيمًا تعكس عظمة روح النضال والصمود.
هذه القصص والملاحم ليست مجرد أحداث ماضية؛ بل هي مشاعل تنير دروب الأجيال القادمة وتحفزهم على التعلم من تجارب الأبطال. ليس التاريخ مجرد سارد فحسب لأحداث مضت، بل هو مرآة تعكس البطولات لتظل نابضة بالحياة، تستلهم منها قلوب الباحثين عن الحق والعدل أرقى الأمثلة.
أحد القصص البطولية في ظل خذلان الناصر، والإباء الفريد لأجل البقاء على موقف رفض الذل هي تلك التي سطرتها "كربلاء" لأبي الشهداء الحسين بن علي سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي خاض معركة تمثلت شكلًا من صراع الحق مع الباطل، وليس بغريب على سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي تربّى في بيت الوحي والرسالة أن يضرب تلك الأمثلة الراقية في الثبات على الموقف، فها هو نداؤه يمزق صمت التواريخ: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد"، ونداء آخر تردد صداه طيلة السنين: "ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين السلة أو الذلة وهيهات منا الذلة"، هذه النداءات تتناغم مع نداء جده عليه الصلاة والسلام عندما هتف يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
في نيف وسبعين رجلًا من أهل بيته وأنصاره وقف في مواجهة جيش يتألف من حوالي 30 ألف مقاتل، ليقاتل ببسالة قلَّ لها نظير، وضحَّى لأجل المبدأ حتى برضيعه، لذا أضحى إلهامًا ونبراسًا ورمزًا للشرفاء والأحرار في كل أرجاء المعمورة.
في الثالث من شعبان أنجبته سيدة النساء فاطمة الزهراء بنت محمد عليه الصلاة والسلام، الذي تلقاه بيديه وضمه إلى صدره بسرور ممزوج بدموع عينيه، ولكن ولادته التي تلقتها الخلود بين يديها كانت في العاشر من محرم، حيث سطر ملحمة من الدماء الزكية، فكانت تلك بمثابة ولادة ثانية له، ولكن هذه المرة في مهد الخلود.
ما أجمل ما نضده الشاعر الكبير بولس سلامة في هذه الملحمة الخالدة، إنه يقول:
كربلاء!! ستصبحين محجًّا // وتصيرين كالهواءِ انتشارا
ذكركِ المفجع الأليم سيغدو // في البرايا مثلَ الضّياءِ اشتهارا
فيكون الهدى لمن رام هديًا // وفخارًا لمن يرومُ الفخارا
كُلّما يُذكر الحسينُ شهيدًا // موكبُ الدّهر يُنبت الأحرارا
فيجيءُ الأحرار في الكون بعدي // حيثما سرْتُ يلثمون الغبارا
وينادون دولةَ الظّلم حيدي // قد نقلنا عن الحسين الشِّعارا
و"غزة" أعادت إحياء ذكرى كربلاء في الساحة من جديد بصمودها أمام قوى الطغيان لمواصلة نهج الإباء الذي سطره رمز الفداء الحسين، فما أشبه الأمس باليوم، فالتاريخ قد لا يعيد نفسه ولكن السيناريوات لمواجهات الحق بالباطل تُعاد بصور مختلفة لذا قال يحيى السنوار: "فلتكن غزة كربلاء العصر"، وقبل أيام هتف البطل الفلسطيني المُحرر من سجون الصهاينة حمدي محمد شحادة يقول:
"لن تتحكم بزماني لن تخضعني // ثوريٌ نهجي والخط حُسيني"
حقًا صدق من قال: "كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء".
إنها قصص سيظل التاريخ يرويها، لأنها ليست مجرد أحداث قديمة، بل هي إشارات ترشدنا نحو الطريق الصحيح وتجعلنا نواصل نضالنا من أجل الحق والعدل مهما كانت التحديات.