مدرين المكتومية
هناك من يبحث عن التغيير بشكل مُستمر، وهناك من يرى أنَّ الحياة لا تستحق أن يلهث المرء فيها وراء أمور صعبة التحقُّق أو أن يُجازف من أجلها، وهناك من يخاف أن يُغامر بحياته في مغامرة قد تربح أو تخسر؛ ليجد نفسه بعد كل ذلك راغبًا في البقاء في منطقة مُعينة، منطقة آمنة، دون التحرك لمكان آخر، خوفًا من التغيير الذي قد لا يتناسب مع تفاصيل حياته.
تُسمى تلك المنطقة أو الزاوية التي قد يخضع لها الشخص ويعيشها ضمن روتين مُعين، "منطقة الراحة"؛ تلك المنطقة التي يقبل بها الشخص أن يكون وفق نظام (روتين) معين، تلك المنطقة الوهمية التي اخترعها الشخص لنفسه؛ حيث يشعر فيها الشخص بالراحة، ولا مخاطرة بحياته، ووظيفته، وأصدقائه وزملائه، وهو أمر جيِّد ولكنه لا يتماشى مع طبيعة الشخص، التي هي أكثر تحدياً وعزيمة وبحثاً نحو اكتشاف الأشياء، فمنذ الخلق الأول، من البدايات الأولى للبشرية، فإنِّهم كانوا يبحثون عن الكيفية التي يعيشون فيها، يجازفون ويحاربون ويخرجون لمناطق مجهولة وكل ذلك من أجل البقاء.
الإنسان بطبيعته لا يجب أن يركن في زاوية، وأن يبقى في انتظار الأشياء دون أن يسعى لها؛ بل عليه أن يجري ويبحث نحو المجهول، ليصل لما يُريد، وليس البقاء والانتظار، فالعالم يجري من أمامنا بصورة سريعة ولا يتوقف ولا ينتظر أحدًا، لذلك يجب أن يخرج الشخص من منطقة الراحة الوهمية، التي هو من صنعها بنفسه وآمن بها، بينما في الحقيقة ماهي إلا خدعة لا تمت للواقع بصلة، الإنسان خلق للسعي والعمل والاجتهاد والبذل، وليس للركون والانزواء دون حركة.
البقاء في مكان واحد، لا يقود نحو تحقيق المزيد من الفرص، ولا يقود لمكان سوى تحويل الحياة ذات الإيقاع المتسارع إلى روتين قاتل، روتين من الصعب كسره وتحطيمه، بل إنه قد يقود صاحبه للشعور دائمًا بأن حياته ذات رتم واحد، تخلو من المتعة والمرح، لا يمتلك دهشة الأشياء، ولا يتعلم شيئاً، يبقى عالقاً، لأنَّ الإنسان الذي يتحدى ويخرج للفرص الأخرى، يتعلم بصورة كبيرة من كل شيء، ويمتلك قدرة لفهم كل الأشياء من حوله، وبالتالي فإنَّ لديه طاقة لتقبل الأشياء إن حدثت وإن لم تحدث، ولديه أيضًا قدرة لصناعة الفارق في حياته.
ولذلك أؤكد لكم، بكل صراحة وعن تجربة، أن الخروج من منطقة الراحة خطوة مُهمة للنمو الشخصي وتطوير الحياة. وعند محاولة اكتشاف أشياء جديدة وتجربة تحديات جديدة، نفتح لأنفسنا أبوابًا لفرص لا حصر لها؛ سواء من خلال التعلم المستمر، عبر الدورات التعليمية، أو قراءة الكتب النافعة، والحرص على اكتساب مهارات جديدة، وهذه أمور يُمكن أن تُساعدنا على تحقيق تأثير إيجابي كبير في حياتنا؛ بل وحياة من نرتبط بهم، وخاصة الأسرة والأصدقاء المقربين.
وأحد الأساليب الفعّالة لضمان الخروج من منطقة الراحة أو الأمان- سمّها ما شئت- هو تحديد أهداف قصيرة وطويلة المدى والعمل بكل جدٍ لتحقيقها.
على المستوى الشخصي، سعيت منذ فترة ليست بالقصيرة في حياتي، أن أضع أهدافًا واضحة في الحياة، وربما أكتب بعضها في مُفكرة أو دفتر ملاحظات، أو حتى على هاتفي النقال، وقد شعرت أنَّ الأمر يُساعدني في تنظيم حياتي والتركيز والعمل بشكل أكثر ترتيبًا وأعلى كفاءة. وكذلك الحرص على تعلم الجديد، لا سيما في مجال عملي، من خلال البحث عن مهارات جديدة أو دراسة مجال جديد يُمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير على حياتي. وقد نجحت- ولله الحمد- أن أحصل على درجة الماجستير في العلوم الإدارية، والآن أعكف على دراسة الدكتوراه، وهي خطوة كُنت أراها سابقًا صعبة المنال وربما مستحيلة، لكن بالإصرار والتخطيط الجيِّد تمكّنت من بلوغها.
وهناك مقولة يُرددها مدربو التنمية البشرية وهي "واجه مخاوفك"، وقد يعتقد البعض أنَّ هذا من باب إطلاق الشعارات، لكن في حقيقة الأمر هذه المُواجهة مطلوبة ومهمة جدًا لتحقيق شيء إيجابي في حياتنا، والمخاوف قد تكون اجتماعية أو مالية، أو حتى عاطفية، لكن المؤكد أنَّه يتعين علينا مواجهتها بكل حسم وقوة وإرادة صلبة.
وأخيرًا، ومن أجل الخروج من منطقة الراحة والانتقال إلى كل ما يحقق لنا الشغف والتميز، علينا أن نتخلى عن روتين يومنا المُمل والبطيء ربما، من خلال تغيير عادات النوم والاستيقاظ، أو عادات استخدام الهاتف النقال، أو عادات لقاء الأصدقاء، لكي تكون كلها ذات نفع حقيقي ومباشر، ودون إهدار للوقت أو تضييع للمال.
إنَّ التحول نحو المسارات الإيجابية في الحياة، يستلزم أن نتخلص من أعباء الحياة التي نتوهمها ومشاعر الإحباط ومخاوف الفشل، وأن نؤمن أنَّ أي إخفاقات في حياتنا هي جزء من رحلتنا في هذه الحياة، المليئة بالتحديات، لكنها زاخرة أيضًا بالفرص، والأصح أن نستفيد من الفرص لتحقيق أهدافنا، وبلوغ غاياتنا التي نتطلع إليها.