د. عبدالله باحجاج
احتفلت البلاد بالذكري الخامسة للنَّهضة المُتجدِّدة ببشارات كثيرة لامست جوانب اجتماعية واقتصادية مُباشرة، كدعم مالي قيمته 178 مليون ريال، وإقامة صندوق للزواج في كل محافظة بدعم حكومي، سيصدر أسلوب حوكمته لاحقًا.
وهذه الحوكمة مُرتقبة من الشباب، ونتمنى ألا تُضيِّق فرص الاستفادة من الصندوق، كأن تتشدد في الحد الأدنى للرواتب عند 325 ريالًا مثلًا؛ لأنَّ من أهم أهداف الصندوق مساعدة الشباب على تأسيس المؤسسة الزوجية من داخل الوطن في ظل توجهات البعض نحو الخارج، حيث كشفت إحصاءات عن عقد 3500 حالة زواج في العام الماضي، بجانب عزوف البعض عن الزواج بسبب الظروف المالية، كما تتطلب الحاجة تحديد المهور، وجعلها في مستويات الظروف المالية الاجتماعية الجديدة للأسر وإمكانيات الشباب.
اللافت في خطاب الذكرى الخامسة للنهضة المُتجدِّدة، الرهانات على مستقبل نظام المحافظات كرؤية استراتيجية لحل الكثير من المشاكل التي لا يُمكن حلها عن طريق الحكومة المركزية، فكثيرة هي جوانب الحياة المعاصرة التي تكون فيها اللامركزية الحل الأمثل لمواجهة المشاكل، خاصةً في عالم اليوم المُتغيِّر، ونتاج مُتغيراته عابرة للحدود بصورة تلقائية. ومن هنا، فقد صدرت التوجيهات السامية في مطلع السنة السادسة من انطلاقة النهضة المُتجدِّدة، بالاستمرارية في منح المحافظات المزيد من الصلاحيات والدعم في مختلف القطاعات، لتحقيق هدف استراتيجي مُحدد وطموح جدًا، حدده جلالته- حفظه الله- في الآتي: "لكي تُصبح المحافظات مراكز اقتصادية تقود النمو الاقتصادي في البلاد"، وهذه تُعد من الطرق المُثلي لزيادة النمو الاقتصادي، وذلك لإمكانيات المحافظات الواعدة من جهة، ولأنها الوسيلة التي ستضمن انعكاسات اجتماعية مباشرة وملموسة كإنتاج فرص عمل وارتفاع الأجور وتحسين المستويات المعيشية من جهة ثانية؛ إذ إنَّ تحوُّل المحافظات إلى مراكز اقتصادية يُحقق هدفين استراتيجيين هما: هدف اقتصادي، يتمثل في تعظيم إيرادات الدولة من خلال استغلال المزايا النسبية لكل مُحافظة، ومن ثم تنويع الاقتصاد العُماني. والثاني هدف اجتماعي وفق ما أشرنا إليه سابقًا، والانعكاس هنا سيكون ملموسًا، وقد عبَّرنا في مقالات سابقة عن قناعتنا بحل قضية الباحثين عن عمل والمسرحين عن طريق اللامركزية.
واليوم كل محافظة باتت تضم مناطق اقتصادية أو حرة أو مدن صناعية، ووصل العدد إلى 15 منطقة اقتصادية وحرة ومدينة منها 8 مناطق جديدة. ووفق الإحصائيات بلغ حجم الاستثمار التراكمي المُلتَزَم به في هذه المناطق بنهاية يونيو 2024 نحو 20.1 مليار ريال مقارنة مع 16.7 مليار ريال في يونيو 2023. وهنا نستخلص مجموعة رؤى تدعم مسار الرهانات السامية لتحويل المحافظات إلى مراكز اقتصادية لقيادة النمو الاقتصادي في البلاد، نذكر منها: أولًا: تطوير شكل العلاقة الجديدة بين نظام المحافظات والمركزية لتعظيم الأثر الاقتصادي والاجتماعي للمشروعات الكبرى في المحافظات؛ ففي محافظة ظفار- مثلًا- هناك ميناء صلالة الذي تجاوزت أرباحه الصافية أكثر من 1.5 مليون ريال في النصف الأول من عام 2024، والتساؤل هنا: ما دور الميناء في تنشيط الحركة التجارية الإقليمية؟ وما انعكاسات هذه الأرباح على المجتمع المحلي في ظفار؟
وكذلك المنطقة الحرة بصلالة، وقد تجاوز حجم الاستثمار التراكمي فيها نحو 4.6 مليار ريال بنهاية يونيو 2024، ويبلغ عدد الشركات في المنطقة 143 شركة، كما إنَّ الإقبال على توطين الاستثمارات فيها يتزايد، بفضل موقعها الاستراتيجي، وحالة الاستقرار التي تنعم بها بلادنا، فما حجم انعكاسات المنطقة الحرة اجتماعيًا؟ وهل تتماشى مع مستوى الطموحات؟ الميناء والمنطقة الحرة مجرد أمثلة، بينما هناك شركات ومناطق حكومية وخاصة من الوزن الكبير ينبغي أن يُفتح ملف تعظيم فوائدها الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية بعد التوجيهات الجديدة بتحويل المحافظات الى مركز اقتصادية لقيادة النمو الاقتصادي، بحيث تكون المحافظات اللامركزية هي المسؤولة عن الملف الاجتماعي.
ثانيًا: أصبح الآن بمقدور كل محافظة أن يكون لها اقتصاد خاص بها، وقد منحها قانون المحافظات والمجالس البلدية صلاحية استثمار الأراضي والمرافق، ومن خلالها يُمكن المساهمة الفعّالة في تحول المحافظة إلى مركز اقتصادي مُدِر للإيرادات العامة والمحلية، ويوفر فرص عمل ويُحسِّن من المستويات المعيشية للمواطنين.
ثالثًا: تطوير العلاقة بين المؤسسات اللامركزية. ونحصر هذه المؤسسات في محافظة ظفار مثلًا في: مكتب المحافظ، ومكتب الوالي بكل ولاية، وبلدية ظفار، والمجلس البلدي، وفرع غرفة وتجارة صناعة عُمان بالمحافظة، والجمعيات والمؤسسات المدنية والخيرية، كأن يتم تحويل فروع الغرفة في المحافظات إلى غُرف مستقلة ومرتبطة بالسياسات العامة للغرفة وحوكمتها. وهذه مسألة مُهمة في اتجاه تحويل المحافظات إلى مراكز اقتصادية لقيادة النمو؛ إذ إن كل محافظة لها ميزتها النسبية الاقتصادية والجغرافية، التي يمكن من خلالها الانفتاح على محيطها دون بيروقراطية.
رابعًا: مع هذا التوجه الوطني، ستتعاظم أدوار المجالس البلدية المُنتخبة، وستتجه بوصلة الرأي العام المحلي في كل محافظة إليها؛ لأنها ستكون معنية بتفاصيل الحياة اليومية لمجتمعاتها المحلية من خدمات وحقوق، كالصحة والتوظيف والحفاظ على القيم والهوية التي شدَّد عليها عاهل البلاد- حفظه الله- في خطاب الذكرى الخامسة لتوليه الحكم، واعتبرها مُقدَّسة رغم انفتاح البلاد. وهذا يعني أن جلالته يُريد للانفتاح أن يكون محكومًا بشروط وطنية حاكمة، ومعها سيظل مجلس الشورى كمؤسسة مركزية ذات مهام رقابية وتشريعية، وبهذا ستكون البوصلة الاجتماعية أفقية وليست رأسية، مهما كانت النتائج أو التداعيات، وستستدعي بوصلتها الرأسية في حالة تدخلها السياسي عند الضرورة.
خامسًا: إقامة مراكز للتخطيط الإقليمي في المحافظات، من أجل بلورة الأولويات اللامركزية، في ضوء الاستراتيجيات الوطنية مثل رؤية "عُمان 2040"، داخل كل محافظة، ونُعوِّل على هذه المراكز بعد تصريح معالي الدكتور سعيد بن محمد الصقري وزير الاقتصاد لإذاعة الوصال، والذي قال فيه إن برنامج تنمية المحافظات "لم يكن واضحًا بالنسبة لنا.. وكذلك بالنسبة للمحافظات في السنة الأولى له؛ مما أحدث بطئا في تنفيذ المشاريع في سنته الأولى". غير أن معاليه أكد أنه تم تنفيذ نسبة 80% منه حاليًا. أما المراكز- التي نقترحها في سياق مقالنا هذا- ستقوم بعملية التخطيط لتعزيز المسارات والتوجهات الوطنية في المحافظات؛ لجعلها مراكز اقتصادية تقود النمو الاقتصادي بعيدًا عن الاجتهادات ورؤى المركزية الحكومية.
وأخيرًا.. لنا في نماذج دولية، أمثلة تدعم ذلك، مثل التجربة الماليزية في تطبيق اللامركزية، والتي حققت نجاحات كبيرة على صعيد التنمية البشرية، والقضاء على البطالة والفقر، بعدما كانت تعاني منها لسنوات طويلة، علاوة على أن التطبيق الناجح للامركزية جعل ماليزيا من البلدان حديثة التصنيع، واستطاع معها تحقيق تنمية اقتصادية محلية لكل أقاليمها، وأيضًا القضاء على النعرات العرقية، والإثنية التي كانت تقف حاجزًا أمام إنجاز التنمية الاقتصادية.