علي بن سالم كفيتان
رغم أنَّ العُمانيين كانوا يتوقعون رحيل القائد المُؤسس السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- في أي لحظة في ظل تراجع صحته واعتلال جسده منذ النصف الثاني من عام 2019، وظهوره الأخير في الرابع من ديسمبر 2019 شاحب الوجه أثناء استقبال الأمير وليام، دوق كامبريدج في قصر بيت البركة، إلّا أنَّ الولاء العاطفي للسلطان الراحل جعلهم يوقنون بالله أنَّه سيتعافى، ولهذا كانت صدمة وفاة السلطان قابوس مساء الجمعة المُوافق 10 يناير 2020 عظيمة، اهتزَّت لها كل أنحاء عُمان، فلم ينم أحد ليلة الجمعة؛ بانتظار بيان رسمي، ليأتي الخبر الحزين فجر السبت، أنَّ باني عُمان رحل؛ فتوشحت عُمان بالحزن، وساد الألم كل ناحية في وطن قابوس، الذي بناه من الصفر وجاهد لبقائه عزيزًا مُهابًا حتى آخر لحظات حياته.
بعد ذلك، سهر العُمانيون ليلتهم ليودعوا قائدهم العظيم، وليطمئنوا على سلامة انتقال السُلطة في وطن السلام، فلم يكن أحدٌ يعرف من سيخلف السُلطان قابوس، ولا كيف ستتم مراسم الجنازة، وظّل الجميع مُتسمِرًا أمام شاشات التلفزة، تتقاذفهم أمواج الحزن على قائدهم ويحدوهم الأمل بخلفٍ صالحٍ يحفظ إرث الراحل ويقود بلادهم إلى مرافئ الأمان. لم تكن تلك اللحظات سهلة، لقد كانت مِفصلية في تاريخ عُمان الحديث؛ حيث تم مساء الجمعة استدعاء أعضاء مجلس عُمان (الشورى والدولة) بشكل عاجل وسري لحضور جلسة طارئة صبيحة السبت الحزين، في الوقت الذي أمّنت فيه المؤسسة العسكرية والأمنية البلاد، لضمان الانتقال السلس للحكم في البلاد. واتفقت الأسرة المالكة الكريمة على تنفيذ وصية السلطان قابوس، إكرامًا لذكراه وإيمانًا برؤيته فيمَن يستطيع حمل الأمانة من بعده. فأُعلن في الحادي عشر من يناير 2020 في جلسة لمجلس عُمان عن تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في البلاد، ووُرِي السلطان الراحل الثرى في مسقط، ظهيرة ذلك اليوم، وبدأ عهد جديد في عُمان.
كانت تركة السلطان قابوس عظيمة في الإنجاز وفي المواقف الخالدة التي ربطته بشعبه طوال 50 عامًا؛ لهذا لم تكن الانطلاقة سهلة؛ فالإرث العاطفي حضر بقوة طوال الخمس سنوات التي خلت من عهد النهضة المُتجددة؛ فالزعيم الراحل خلَّد ذكراه في كل قطرة دم تجري في عروق العُمانيين، وفي كل ذرة تراب من عُمان، في الوقت الذي كان فيه لا بُد من اتخاذ قرارات مفصلية لإعادة هيكلة الدولة وتصحيح المسارات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد لتجنب الأسوأ، ومما لا شك فيه أنَّ القرارات مؤلمة، وخاصةً عندما تتعلق بمعيشة الإنسان وتغيير نمط حياته. نعلم أن هذا لم يكن سهلًا لسلطان جديد يتوق لبسط يد العطاء والرحمة لمواطنيه؛ حيث كانت الخيارات قليلة وصعبة، ما بين الاستمرار على ما هو قائم تجنبًا للاصطدام بالواقع أو المضي قدمًا في التصحيح، ولو كان مؤلمًا. راهن جلالة السلطان المعظم- أبقاه الله- على وفاء شعبه ومحبتهم لعُمان وتقديرهم لضرورات المرحلة التي تطلبت فرض العديد من الإجراءات الاقتصادية الصعبة للحفاظ على قوة الريال العُماني، ومجابهة التضخم، وفك المديونية العالية على البلاد من خلال تنفيذ خطة "التوازن المالي"، التي حُدد لها خمس سنوات انتهت في ديسمبر 2024 بتحسنٍ كبيرٍ لأداء الاقتصاد العُماني، وارتفاع مستوى التصنيف الائتماني إلى نظرة مستقرة، وهو ما ولَّد مناخًا استثماريًا آمنًا.
وبعد انقضاء سنوات التوازن المالي، يتطلع العُمانيون بشغفٍ لأعوام فيها يُغاث النَّاس، وفيها يعصرون، وخاصة في الملفات الأكثر إلحاحًا على المستوى الوطني، وعلى رأسها الباحثين عن عمل، الذين تخطت أعدادهم 100 ألف شاب وشابة، ينتظرون الفرج بعد أن قضوا ردحًا من أعمارهم في الدراسة والتدريب والتأهيل، يحدوهم الأمل بأن يساهموا في بناء نهضة بلادهم المتجددة، بعيدًا عن المزايدات على قدرة القطاع الخاص على استيعابهم عبر تسمين الشركات بأموال الدولة، دون أن تكون هناك نتيجة مباشرة في تشغيل العُمانيين؛ إذ إنَّ القطاع الخاص الريعي الذي ظلَّ قائمًا بفضل أموال الدولة طوال 54 سنة، ولم يُطوِّر من قدراته الذاتية وممكناته، ليس جديرًا باستلام هذا الملف الكبير والخطير. ولذلك نرى أن يُولى الأمر إلى لجنة وطنية للتشغيل، توكل رئاستها إلى شخصية وطنية فذَّة، تستطيعُ فرض التعمين على الشركات الحكومية أولًا وتوطين صناعات النفط والغاز والمعادن، لكي تستطيع أن تقدم قيمة مضافة للداخل؛ فليس من المقبول أن نورِّد خامات بلادنا الى الخارج برخص التراب ونعيد استيرادها بالمليارات! ولا شك أن إقامة المصانع التي تُحوِّل المواد الخام إلى منتجات شتى سترفع من الأداء الاقتصادي وتُوجِد آلاف الفرص الوظيفية للعُمانيين، وتُساهم في رسوخ البناء الداخلي للدولة وصولًا إلى الرفاه المنشود.
حفظ الله بلادي، وكل عام وجلالة السلطان بخيرٍ، وعُمان في رقيٍ وسؤددٍ.