د. هيثم مزاحم
تمكن اقتصاد الصين في عام 2024 من تحقيق هدف النمو المعلن، مظهراً مرونة وقدرة على التكيّف، وسط تحديات محلية وعالمية عدة.
كلام الرئيس الصيني شي جين بينغ في اليوم الأخير من عام 2024 عن أن نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين في ذلك العام سيصل إلى هدفه المعلن، قد أكده قبل أيام البنك الدولي الذي رفع من توقعاته للنمو الاقتصادي في الصين لعامي 2024 و2025.
وقال الرئيس شي إن الناتج المحلي الإجمالي للصين من المتوقع أن يصل إلى نحو 5% للعام 2024 بأكمله، مما يشير إلى أن ثاني أكبر اقتصاد في العالم يسير على الطريق الصحيح لتحقيق هدفه الرسمي.
وقال شي إن اقتصاد الصين مستقر ويتقدم بثبات، مؤكداً أنه تمت معالجة المخاطر في المجالات الرئيسية بشكل فعال.
وقد رفع البنك الدولي تقديراته لنمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين إلى 4.9% في عام 2024 مقارنةً بتوقعات سابقة بلغت 4.8%، مدعوماً بإجراءات التيسير النقدي الأخيرة وقوة الصادرات في المدى القريب.
وبالنسبة لعام 2025، عدّل البنك توقعاته إلى 4.5% بدلاً من 4.1%.
وكانت الحكومة الصينية قد أعلنت عن هدفها تحقيق نمو اقتصادي بنحو 5% خلال العام 2024، وهو قريب جداً من تقديرات البنك الدولي الذي توقع وصول النمو إلى 4.9%.
وظهر نمو ملحوظ في المؤشرات الاقتصادية الرئيسية مثل الناتج الصناعي، إلى جانب التقدم في استقرار سوق العقارات. وعززت الإصلاحات المستهدفة والدعم المالي والتدابير القائمة على الابتكار الثقة المحلية.
وكانت وزارة المالية الصينية قد كشفت مؤخراً عن خطط لزيادة الدعم المالي للاستهلاك للعام الجديد من خلال زيادة معاشات التقاعد ودعم التأمين الطبي للمقيمين وتوسيع عمليات مبادلة السلع الاستهلاكية.
وفي أواخر سبتمبر الماضي، أطلقت بكين سلسلة من التحفيزات ركزت بشكل أساسي على السياسة النقدية، مع إجراءات مثل خفض أسعار الفائدة.
وقد نما النشاط الصناعي في الصين بأسرع وتيرة له خلال نوفمبر الماضي، بدعم من زيادة الإنتاج الناجمة عن انتعاش الطلب سواء المحلي أو الخارجي، ما عزز من معنويات المُصنعين.
ويُتوقع أن يساهم اقتصاد الصين بنحو 30 في المائة من النمو العالمي في عام 2024، مما يسلط الضوء على دوره المحوري في المشهد الاقتصادي الدولي.
وكان الرئيس شي ورئيس مجلس الدولة لي تشيانغ قد أكدا في مناسبات عدة العام الماضي على أهمية حفاظ الصين على "التنمية عالية الجودة"، بدلاً من النمو السريع.
وفي عام 2017، كشف الرئيس شي أن الصين عازمة على نقل اقتصادها من حقبة النمو السريع إلى مرحلة النمو عالي الجودة، وهذا يتطلب إحداث تحول ثوري في القطاع التكنولوجي، وإجراء تحول جذري وتحديث للقطاعات الاقتصادية التقليدية.
وتشمل الصناعات المرتبطة بالتنمية أو النمو عالي الجودة قطاع الذكاء الاصطناعي التوليدي، وأشباه الموصلات، والطاقة المتجددة، مع الحفاظ على فاعلية سلاسل التوريد، والوصول إلى الأسواق العالمية.
وقد قدم المسؤولون الصينيون ما يكفي من الدعم لتحقيق هدف النمو هذا العام بنحو 5% من دون زيادة الديون.
وقد تعهد رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ مؤخراً باستخدام "كل الوسائل الممكنة" لتعزيز الاستهلاك.
وقد شهد الاقتصاد الصيني مؤخراً موجة من التفاؤل، وسط تحسن كبير في أسواق الأسهم مع تحقيق صناديق التحوط أرباحاً كبيرة نتيجة لتحفيزات اقتصادية واسعة النطاق أعلن عنها الرئيس شي.
وأطلقت الحكومة الصينية سلسلة من التحفيزات الاقتصادية، بما في ذلك تخفيف السياسات النقدية، والتوسع المالي، ودعم مشتري المنازل، بالإضافة إلى ضخ رؤوس أموال كبيرة في المؤسسات المصرفية المحلية.
كما تم إنشاء صندوق لاستقرار السوق بهدف الحفاظ على توازن الأسواق المالية، في إطار محاولات الحكومة تعزيز الطلب المحلي وإعادة الحيوية إلى الاقتصاد.
كما سجلت صناديق التحوط التي استثمرت بكثافة في السوق الصينية عوائد تصل إلى 25% في الأشهر الأخيرة، مما يعكس التأثير الإيجابي للإجراءات الحكومية الصينية على الأسواق.
ويتوقع الخبراء الدوليون أن يكون للتحفيزات الصينية تأثير مباشر على الاقتصاد العالمي، إذ يعد الاقتصاد الصيني محورياً بالنسبة للعديد من الدول، خاصة في مجالات الإنتاج الصناعي والطلب على السلع الأساسية، مثل النفط والمواد الخام. إذ تعتبر الصين أكبر مصدر ومستهلك للعديد من السلع، مما يجعل أي انتعاش في اقتصادها أمراً بالغ الأهمية للنمو الاقتصادي العالمي.
وأشار المحللون إلى أن نجاح الإجراءات الاقتصادية الصينية سيؤدي إلى انتعاش في الأسواق العالمية، وكل تحسّن في الاقتصاد الصيني سيؤدي إلى تعزيز التجارة الدولية ورفع الطلب على السلع.
وكان بنك الشعب الصيني قد أعلن في سبتمبر الماضي عن إجراءات واسعة النطاق للتحفيز النقدي ودعم سوق العقارات بهدف إنعاش الاقتصاد وتحقيق هدف النمو المعلن للعام 2024.
ومن بين الإجراءات خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي الذي يتعيّن على المصارف الاحتفاظ به وخفض الفائدة الرئيسية، وذلك من أجل تزويد السوق المالية بسيولة طويلة الأجل تبلغ نحو تريليون يوان. وتضمنت حزمة دعم سوق العقارات خفضاً للفائدة على الرهن العقاري الحالي وخفض الدفعة الأولى لشراء المساكن.
وعلى الرغم من تأثيرات الجائحة والإغلاقات التي رافقتها على الاقتصاد الصيني، ظل هذا الاقتصاد يتمتع بأسس جيدة وظروف مواتية لتعزيز تنمية عالية الجودة. وأظهرت البلاد قدرتها على الصمود في مواجهة الصدمات الخارجية والصعوبات الداخلية.
ويعتقد الرئيس شي أن الصين آخذة في الصعود، وهو ملتزم بتحقيق "حلم الصين"، ويعتزم تحقيق هذا الهدف بحلول عام 2049، الذي يوافق الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
ويرى الزعيم شي أن صعود بلاده هو عملية ستستغرق وقتاً وتتطلب تعديلات، والصعوبات الحالية التي تواجهها البلاد هي مجرد عقبات على الطريق نحو تحقيق حلم الصين.
ويؤمن الرئيس شي بالدور القوي للدولة، ومركزية التكنولوجيا التي يمكن أن تدفع مكاسب الإنتاجية. فهو يريد اقتصاداً صناعياً متقدماً كالاقتصاد الألماني، لا يعتمد بشكل كبير على الاستهلاك والخدمات كالاقتصاد الأميركي.
ومنذ توليه الحكم عام 2013، كانت للزعيم شي طموحات كبيرة للبلاد وهو كان ولا يزال مصمماً على تحقيقها. وهو يسعى إلى إعادة تشكيل الاقتصاد حتى يصبح أكثر اكتفاءً ذاتياً وأكثر عدالة. وهو يريد تجديد أسلاك الاقتصاد بحيث يصبح أقل اعتماداً على الصادرات والاستثمار في العقارات والبنية الأساسية، ويصبح أكثر اعتماداً على التكنولوجيا والتصنيع المتقدم لتوليد النمو. ولهذا السبب فهو يستثمر الكثير في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، والسيارات الكهربائية، والبطاريات، والتي يطلق عليها بعض المراقبين الصينيين "المحركات الثلاثة الجديدة" للنمو. (المحركات الثلاثة القديمة هي العقارات، والبنية التحتية، والتجارة التجهيزية). ويعتقد شي أن تقليص قطاع العقارات كان خطوة مؤلمة ولكنها ضرورية في إعادة تخصيص رأس المال لتحقيق التحول الاقتصادي.
خلاصة القول إن الصين سوف تظل قوة عالمية اقتصادياً وسياسياً، فهي لا تزال أكبر مصدر ودائن في العالم وهي ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان. كما أنها مركز الابتكار لبعض أهم الصناعات الناشئة، مثل البطاريات والسيارات الكهربائية. ولا تزال تنتج أو تنقّي أكثر من نصف المعادن المهمة في العالم. وخلافاً لبعض المحللين الغربيين الذين يتحدثون عن وصول اقتصاد الصين إلى الذروة، فإن هذا الاقتصاد يواصل نموه ولكنه نمو عالي الجودة، كما خطط الرئيس شي.
*رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان