سلطان بن محمد القاسمي
في زمنٍ أصبح فيه العالم بأسره بين أطراف أصابعنا، وحيث تقفز الإشعارات من كل زاوية، ويمتلئ الفضاء الرقمي بالأصوات، يبقى السؤال الأهم: هل بقيت أخلاقنا كما هي أم أنها تآكلت مع كل نقرة ومشاركة وتعليق؟ إن العالم الرقمي، رغم ما يُقدمه من فرص تواصل ومعرفة، يحمل في طياته تحديات كبيرة لأخلاقياتنا. فبين سرعة الوصول وسهولة التفاعل، قد نفقد شيئًا ثمينًا إذا لم نكن على وعيٍ كافٍ؛ نفقد قيمنا، وأخلاقنا، ومبادئنا التي ترسم معالم شخصياتنا.
في البداية، علينا أن نعترف بأنَّ العالم الرقمي ليس مجرد أدوات أو تطبيقات، بل هو امتداد لما نحن عليه في واقعنا. فكل تعليق نكتبه، وكل رسالة نرسلها، وكل صورة نشاركها، هي انعكاس لأخلاقياتنا وقيمنا. فإذا كنَّا نحرص على الأخلاق في الحياة اليومية، فلماذا يتبخر هذا الحرص عند أول اتصال بالشبكة العنكبوتية؟ لماذا يجد البعض أنفسهم أكثر تحررًا في النقد الجارح أو في نشر الشائعات لمجرد أنَّهم خلف الشاشات؟
وبالمثل، تتجلى في هذا العالم الافتراضي بعض الممارسات غير الأخلاقية، حيث يختبئ البعض خلف أسماء وهمية ليطلقوا تعليقات مسيئة، أو يسخروا من الآخرين، معتقدين أنَّ هذه التصرفات لن تلحق بهم أي تبعات. وللأسف، تنتشر أيضًا التصرفات الصبيانية والمراهقة؛ من نشر محتوى هابط بهدف لفت الانتباه إلى إثارة الجدل من دون مراعاة للذوق العام أو لمشاعر الآخرين.
إن هذه السلوكيات تكشف ضعف الوازع الأخلاقي لدى بعض الأفراد، وتبرهن على أنَّ الشاشة لا تغيّر حقيقة الإنسان بل تكشفها.
كذلك، هناك من يُقللون من أنفسهم بإرادتهم، ظنًّا منهم أنهم يكسبون جمهورًا أو يحققون شهرة من خلال منشورات هابطة أو مقاطع ترفيهية لا هدف لها سوى السخرية من الذات. هؤلاء الأشخاص يتوهمون أن تقديم أنفسهم كأضحوكة سيزيد من عدد متابعيهم ويجلب لهم الإعجاب، لكنهم في الحقيقة يخسرون شيئًا أثمن بكثير: أخلاقهم ومبادئهم. فكم من شخصٍ كان بإمكانه أن يكون قدوة أو مصدر إلهام، لكنه اختار أن يُلغي احترامه لنفسه مقابل لحظات من الاهتمام الزائف! وهنا، تذكر أنك بما تقدمه ترسم صورة عن نفسك في أذهان الآخرين، وصورتك الحقيقية لا يجب أن تتلون أو تتبدل. حافظ على كرامتك وتربيتك، ولا تجعل من نفسك أداة للترفيه الساذج الذي يفقدك قيمتك ومكانتك.
وهنا، يحضرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" (رواه الترمذي). هذه الكلمات، وإن قيلت في زمن بعيد، إلا أنها اليوم أكثر أهمية في عالم مليء بالمواجهات الافتراضية، حيث يسهل التجريح والإساءة دون النظر إلى العواقب. فكل كلمة نكتبها في هذا الفضاء، تُسجل وتُقرأ وتترك أثرًا، سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا.
ومن ناحية أخرى، أصبح التفاعل الرقمي ساحة لاستعراض الآراء، حيث يعتقد الكثيرون أن إبداء الرأي دون مراعاة الأسلوب أو اختيار الكلمات هو نوع من الحرية. ولكن الحرية الحقيقية، هي الحرية المسؤولة، الحرية التي تقف عند حدود أخلاقنا ولا تتجاوزها. فما فائدة أن نعبر عن آرائنا إذا كانت تُسقط احترامنا وتخدش قيمنا؟ لنأخذ مثالًا شائعًا: ترى منشورًا أو تعليقًا يخالف رأيك بشدة، فتنفعل وترد بحدة وربما بعبارات غير لائقة، فقط لتكتشف لاحقًا أنك خسرت احترامك واحترام الآخرين دون أن تكسب شيئًا يُذكر. وهنا يتجلى قول الله تعالى: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" (البقرة: 83). هذه التوجيهات الإلهية ليست محصورة في الحياة الواقعية، بل تمتد إلى كل ما نكتبه ونقوله في العالم الرقمي. فالكلمة الطيبة تظل أساس التفاعل الإنساني الراقي، مهما كان الفضاء الذي نعيش فيه.
وفي خضم هذا العالم المليء بالضجيج، لا يجب أن ننسى أنَّ الأخلاق ليست مجرد تفاعل بين فرد وفرد، بل هي مسؤولية جماعية تبني مجتمعًا أفضل. فكّر في تأثير الكلمات المسيئة أو المعلومات المضللة التي تُنشر يوميًا، كيف يمكنها أن تشعل فتيل الكراهية أو تُثير الفتن بين الناس؟ وعلى العكس، تخيل كيف يمكن لكلمة دعم أو تشجيع أن ترفع معنويات شخص يمر بيوم صعب، أو كيف يُمكن لمعلومة صادقة أن تصلح ما أفسدته شائعة.
ومع هذا، نجد أن البعض يتلونون ويتغيرون في العالم الرقمي، يرتدون أقنعة تخفي حقيقتهم. فمثلا، شخص يظهر بمظهر المثقف الناصح بينما يسيء للآخرين في الخفاء، أو آخر يروج لأخلاقيات عالية بينما يتصرف بنقيضها. لذا، لا تدع هذا الفضاء يغريك بأن تكون نسخة مُغايرة لنفسك. كن صادقًا مع نفسك ومع الآخرين؛ سواء في الواقع أو في العالم الافتراضي. وتذكَّر دائمًا: أن تكون على مبدأ واحد، ثابتًا لا يتغير، هو ما يجعلك مُحترمًا في عيون الناس وفي عين نفسك.
ولنأخذ مثالًا من التواصل الرقمي مع الأصدقاء والعائلة. كم من علاقات توترت بسبب سوء فهم في رسالة مكتوبة، أو تعليق ساخر لم يكن في محله؟ في هذه المواقف، تذكّر أن الكلمات المكتوبة تفتقد نبرة الصوت وتعبير الوجه، لذا فإنَّ مسؤوليتك أكبر في أن تزن كلماتك بدقة. لا تخسر أخلاقك لمجرد نزوة أو لحظة غضب، فالعلاقات أثمن من أن تُبدد في معارك تافهة.
ومن جانب آخر، تأمل في القيم التي تربيت عليها. إذا كنت تحرص على الصدق والأمانة والاحترام في حياتك اليومية، فلا تتكلف وتظهر بوجه آخر في العالم الافتراضي. حافظ على تربيتك، لأنها رأس مالك الحقيقي، ولا تجعل من نفسك شخصًا يتلون بحسب المواقف.
وفي الختام، تذكر دائمًا أنَّ العالم الرقمي ليس مكانًا منفصلًا عن الواقع، بل هو امتداد له. فكل ما تفعله هنا يعكس حقيقتك.
لا تدع الشاشات تخدعك لتظن أنَّ الأخلاق قابلة للتفاوض أو المساومة. كن أنت النور الذي يُضيء صفحات الإنترنت بالأخلاق الحسنة، والصدق، والاحترام؛ لأنه في النهاية، ما يبقى حقًا ليس عدد متابعيك أو إعجاباتك؛ بل الأثر الذي تتركه في قلوب الناس؛ سواء كنت بينهم في الواقع أو خلف الشاشات.