علي بن مسعود المعشني
سقوط دمشق لا يعني سقوط نظام ولا سقوط دولة فحسب، بل يعني سقوط سياسات وجغرافيا وتاريخ وهويات وثوابت، وسقوط دمشق بعد بغداد وطرابلس، يعني أنَّ الغرب لا حليفَ ولا صديقَ له من العرب، إلّا بقدر الخضوع والتبعية والتسليم للغرب؛ بما يُحقق مصالحه في الوطن العربي، ويُكرِّس ثقافات "بلفور" و"سايكس-بيكو"، ويجعلها قناعات راسخة في أذهان العرب، وعابرة للحدود والأجيال معًا.
لقد برهن الغرب- لمن لا يعلم من العرب- بعد سقوط دمشق أن نُسكه ومحياه ومماته لخدمة مشروعه واستثماره في قلب الأمة العربية، والمتمثل في الكيان الصهيوني، فيما لم يُدرك عرب زماننا بجميع فئاتهم وطوائفهم ومذاهبهم، أنَّ وجود الكيان الصهيوني بمثابة خِنجر مسموم في قلب الأمة، و"فيتو" غربي على أي نهوض لها، والأهم من كل ذلك هو أن وجود هذا الكيان السرطاني ترجمةٌ حقيقيةٌ وفعليةٌ لثقافتي و"عد بلفور" و"سايكس- بيكو"، وضمان ديمومتهما، وأن جميع نكبات الأمة في تاريخها المُعاصر تتمثل في وجود هذا الكيان.
سعى الكيان الصهيوني ورُعاته إلى تكريس ثقافة ومفهوم الدولة القُطرية في الوطن العربي، هذه الدولة التي تعتقد بسياسة النأي بالنفس في لحظة تاريخية ما، فتجدُ نفسها قسرًا في خانة الدولة الوظيفية لخدمة مصالح الغرب.
وخيارات النظام الرسمي العربي في ظل ثقافة وملامح الدولة القُطرية هي التبعية والوظيفية والعَلَف؛ حيث لا استقلال ولا هوية وثوابت ولا مجال للشرف. وهذا الوضع المُزري للأمة اليوم، ليس كله مفروض عليها قضاءً وقدرًا، بقدر ما هو مرحلة هشاشة تاريخية، وخيارات ظرفية أملتها نظريات غربية حاصرت العقل العربي المُعاصر، وعبثت بوعيه، فأفقدته الرُشد والعقلانية والعودة الى الذات، ومردُّها الأساس هو الدولة القُطرية والتي لم يفهم عرب زماننها أهداف وجودها، وأعراضها ووظيفتها وهامش خياراتها.
الكارثة ليست في تقبُّل عرب زماننا للدولة القُطرية وثقافتها؛ بل في خضوعهم التام لها وتطبيقها في أدوات الوعي والمُتمثِّلة في التعليم والإعلام، وبالنتيجة أنتجنا أجيالًا لا تُفرِّقُ بين الثوابت الوطنية والذائقة الشخصية، وتعليم مُنغَمِس في تحقيق شعار "مُخرجات التعليم ومُدخلات العمل"، وتعصُّب مذهبي يتغوَّل على الدين ويتخطاه؛ بل ويُلغيه في كثير من الأحيان، وهذا الأمر بطبيعة الحال أوصلنا إلى مرحلة التكفير بدلًا عن التفكير، وبالنتيجة مواطنون داخل الدولة، لكنهم بمشاعر المقيمين والمنتفعين من الوطن فقط لا غير، ومواطنون خواء من الوطنية والثوابت وعُرضة لتلقِّي أي فكر مُعادٍ للوطن وللثوابت، وعُملاء- بلا وعي- تحت الطلب!
إنَّ سقوط دمشق لا يعني الانتصار لسوريا والهبَّة لنصرتها والحرص على وحدتها الترابية فحسب، وإن كان واجبًا وفرضَ عينٍ على كل عربي حُر في زماننا؛ بل يعني ضرورة مراجعة كل قُطر عربي لمناهجه التعليمية وخطابه الإعلامي، والالتفاف حول هُوِيَّته وثوابته حِفاظًا على وحدته أولًا وقبل كل شيء، ثم تسويق نفسه للآخر "الحليف" و"الصديق" ليُحافظ على الحد الأدني من مصالحه، ولصون وحدته الوطنية والترابية.
لا شك عندي أن سقوط دمشق وقبلها بغداد وطرابلس، وتداعياتها الكارثية على الأمة، سيُثير الكثير من التساؤلات لدى فئات مُستنيرة من الأجيال العربية الحالية والقادمة، وهذه الأجيال بحكم الزمن وسيرورته ستصنع السياسات والقرار العربي، وسيشهد المُستقبل القريب عودةً قويةً للكثير من الفاقد من الثوابت والمصير المشترك. وكما يخشى الصهيوني على نفسه اليوم من فكر الجيل الغربي القادم- بعد التعاطف العالمي غير المسبوق مع غزة- فإنَّ الزمن كفيلٌ ببعث مفاهيم وعقائد جديدة في الوطن العربي والعالم؛ كنتيجة طبيعية لهذه التحولات والفواجع التي نراها اليوم. والله غالبٌ على أمره.
قبل اللقاء.. ربما "يستيقظ" عرب زماننا بعد سقوط دمشق وبغداد وطرابلس، ويدركون أنَّ مصيرهم واحد في "البورد السياسي" الصهيوأمريكي والغربي كذلك، وأن "حليف" هؤلاء من العرب، هو من يُقدِّم أكثر فروض الخيانة لأمته، ويتنكَّر لثوابته فقط لا غير.
وبالشكر تدوم النعم.