حاتم الطائي
◄ سقوط سوريا جزء من مخططات الاستراتيجية الأمريكية لضمان أمن إسرائيل
◄ إسرائيل شنّت أكبر عملية جوية هجومية في تاريخها بُعيد سقوط النظام السوري
◄ سوريا هي الثور الأبيض كما كانت العراق وليبيا والسودان واليمن
لا يُمكن أن نحصر ما حدث في سوريا قبل أيام، على أنَّه فقط "نجاح للثورة الشعبية" التي انطلقت قبل 13 عامًا؛ فالشعب الذي ثار قبل هذه السنوات إما لقي حتفه نتيجة الصراع الدموي (حيث تشير تقديرات إلى وفاة أكثر من مليون سوري منذ 2011)، أو مُهجَّر ولاجئ في دول العالم، أو يئن تحت وطأة الفقر والعوز داخل هذا البلد العزيز على قلب كل إنسان عربي حقيقي، وربما قبل أيام قليلة من سقوط النظام في دمشق، لم يكن ليُفكر أحد أن ثمَّة تغيُّر سيحدث في رأس النظام.
الذي حدث في سوريا هو أكبر مُخطط استخباراتي تآمري مُسلَّح للتخلص من النظام الحاكم، هو مُخطط مفضوح لدرجة الدهشة، فلا أحد قادر على فهم ما جرى، ولماذا انهار التحالف السوري الإيراني الروسي فجأة وبهذه السرعة؟ ولماذا جرى ذلك بينما تغلي المنطقة حرفيًا فوق فوهة بركان ثائر، أشعلته العربدة الصهيونية بدعم وتأييد أمريكي وغربي غير مسبوق. ما حدث في سوريا لم يكن سوى حلقة من حلقات الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا ضد الدول العربية، هذه الاستراتيجية التي بدأت واشنطن في تطبيقها بعد حرب أكتوبر 1973، بهدف حماية إسرائيل، عندما أدركت الولايات المتحدة أنَّ العرب إذا اتحدوا سيقضون على هذا الكيان الغاصب غير الشرعي. ومنذ ذلك الحين تحرص واشنطن على تنفيذ مُخططها بلا كلل أو ملل، مهما تعاقب الرؤساء من ديمقراطيين أو جمهوريين؛ إذ لا اختلاف بينهما على الاستراتيجيات الكبرى، الاختلاف فقط ينصب على السياسات المُنفِّذة للاستراتيجيات، والأدوات التي يستعملونها؛ فهُم يهتمون بالنتائج لا الوسائل، بالنهايات لا بالتفاصيل، سواء تحقق الأمر بالحروب أو باتفاقيات إخضاع ونهب للثروات، عبر الطرق الدبلوماسية أم الاستخباراتية، من خلال منظمات مجتمع مدني مشبوهة ومموَّلة أو عبر عملاء وجواسيس، لا يُهم سوى النتائج!
الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط العربي، تضع هدفين رئيسين لها؛ الأول: حماية أمن الكيان الصهيوني، والثاني: ضمان أقل سعر لبرميل النفط. وتعتمد واشنطن لتحقيق الهدف الأول على إضعاف الدول المُحيطة بإسرائيل، سواء القريبة منها أو البعيدة، وفي أفضل الأحوال تحييدها، عبر اتفاقيات سلام تضمن ألا تنطلق رصاصة واحدة من هذه الدول باتجاه إسرائيل مهما حدث. أو تلجأ إلى اتفاقيات تطبيع لإغراء الدول المُطبِّعة بصفقات عسكرية أو منحها تكنولوجيا متطورة أو حتى بدون ثمن!
أما الدول التي لم يتم تحييدها، فمصيرها معروف، عداء مُتواصل وحصار اقتصادي ظالم وعدوان لا يتوقف بين الفينة والأخرى، وسوريا كانت واحدة من الدول التي استعصت على أمريكا وإسرائيل، فكان العقاب لها تنفيذ عملية موت بطيء، حتى تسقط سقوطًا مدويًا، مثلما حدث قبل أيام.. وعندما سقطت سوريا انقضت عليها إسرائيل، وشنّت 500 غارة في "أكبر عملية جوية هجومية في تاريخها" حسب وصفها، وضربت في يوم واحد 250 هدفًا شملت قواعد عسكرية وطائرات مُقاتلة وأنظمة صواريخ سورية، علاوة على تدمير كامل الأسطول البحري السوري، لتكون المحصلة الآن القضاء على الجيش العربي السوري بالكامل، واحتلال جبل الشيخ أهم بقعة استراتيجية في الجولان السوري، علاوة على التهديد بالزحف نحو دمشق.
بينما الهدف الثاني من الاستراتيجية الأمريكية، يتمثل في ضمان أسعار نفط بثمنٍ بخسٍ دولارات معدودة؛ لأنَّ الخام الأسود هو عصب الاقتصاد الأمريكي، والولايات المتحدة أكبر مستهلك للنفط في العالم.
إذن الحقيقة التي لا يجب أن نغفلها أنَّ سوريا سقطت.. سقطت الدولة المحورية في منظومة الأمن القومي العربي، الدولة التي مثَّلت بجغرافيتها الاستراتيجية نقطة مركزية وحلقة رئيسية في عمليات المقاومة ضد دولة الاحتلال الصهيوني. سقطت سوريا بعد عقود من إضعافها، ولا نُنكر أنَّ الولايات المتحدة في استراتيجياتها تستفيد من نقاط ضعف الأنظمة، لا سيما إذا كانت أنظمة مُستبدة وديكتاتورية، أنظمة لا تُقيم للمواطن حقًا؛ بل تدعس عليه، وتُذيقه المرارات كؤوسًا، وتُنكِّل به أيما تنكيل، حتى يفقد كرامته، فيحيا في وطنه غير مُنتمٍ له، ولا مؤمنًا بقضيته، ولا حريصًا عليه.
سوريا هي الثور الأبيض، كما كانت العراق، وكما هي الآن ليبيا والسودان واليمن.. الجميع وقع في الفخ، فخ السُلطة والصراع عليها، فخ وهم القوة والاستبداد، ومن المؤسف أنَّ الأنظمة التي يجري الإطاحة بها تمنح أمريكا والغرب كل المُبرِّرَات لكي يُقضى عليها فتموت!
قبل عقود طويلة سقط العراق في ذلك الفخ أكثر من مرة، رغم أنَّه "لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين"، فبعد أن كان العراق مؤهلًا ليكون قوة إقليمية كبرى يمتد خيره لجميع أقطار الوطن العربي؛ إذ كان العراق سلة غذاء متنوعة ومَصدَرًا كبيرًا للموارد المائية بما يملكه من نهري دجلة والفرات، علاوة على ما يزخر به من الذهب الأسود في باطن الأرض؛ حيث يمتلك واحدًا من المخزونات النفطية الهائلة في المنطقة والعالم. لكن هذا الثور الأبيض، سقط في مستنقع الحروب، بين حرب الخليج الأولى المُدمِّرة مع إيران، وحرب الخليج الثانية عندما اعتدى على دولة الكويت. وتفاقمت مُعاناة العراق مع مساعي الولايات المتحدة لخنق الثور الأبيض، تمهيدًا لذبحه على الملأ في يوم النحر. تعرَّض العراق منذ مطلع التسعينيات لاستهداف مُمنهج بدأ بحصار اقتصادي خانق تسبب في شح الموارد، وعقوبات عنيفة عزلت العراق عن محيطه العربي والآسيوي والدولي، حتى وصل إلى مرحلة وضعه على المقصلة مع بدء الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق، والاستيلاء على مقدراته ونهب ثرواته، وأخيرًا إعدام رئيسه!
اليوم، سوريا هي ثور أبيض ثانٍ، لم يختلف السيناريو معها مُطلقًا؛ بل استُخدِمَت نفس الأدوات، وذات الوسائل، "كلاكيت ثاني مرة" أو ربما ثالث أو رابع أو عاشر! استبداد الحاكم وبطشه بأبناء شعبه، ثم حصار خانق ثم عقوبات ثم عدوان عسكري مُمنهج، ثم انقضاض على النظام، وسقوط الدولة بالكامل في أيدي أولئك الذين استولوا فجأة بين عشية وضحاها على كُل سوريا، في عملية أشبه بـ"تسليم المدن" لا استسلامها، فلا طلقة واحدة انطلقت من فوهات البنادق الأمريكية الصُنع، ولا قذيفة مدفع ضَربت حصنًا أو فجّرت مُعسكرًا للجيش السوري، كان الأمر أشبه بوميض الكاميرا، يضيء فجأة في عينيك، وتشعر لثوانٍ أو أجزاء من الثانية بالعمى، ثم فجأة ترى لتكتشف ماذا حدث!
من المؤسف استمرار تنفيذ مُخطط الشرق الأوسط الجديد، الخالي من المقاومة، المُتجاهل للقضية المحورية والأولى للعرب؛ فلسطين، يضم دولًا ضعيفة حد الهوان، لا صوت لها، ولا تأثير، بينما التركيز ينصب على 3 دول غير عربية لتقويتها، وهي إسرائيل وتركيا وإيران.
ويبقى القول.. إنَّ الحقيقة التي لا ينبغي أن يغفلها أحد، أنَّ فلسطين ستظل محور الصراع في الشرق الأوسط، والقضية المركزية التي تدور في فلكها أي قضية أخرى، وإذا كُنَّا خسرنا المعركة هذه المرة، فحتمًا لم ولن نخسر الحرب. وليعلم الجميع، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ورئيسها الجديد القديم دونالد ترامب، أنَّه لا سلام في الشرق الأوسط دون إعلان دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة على أراضيها، ووفق الشرعية الدولية التي ترى إسرائيل دولة احتلال غير قانوني. والمنطقة العربية لن تخرج من دوامة العنف والحروب والصراعات ما دامت فلسطين أسيرة لكيان غاصب مُجرم، ولن تُحقق الإدارة الأمريكة أي "صفقة قرن" في عهد ترامب، ما لم تتحرر فلسطين ويحكمها أبناؤها الذي قدموا تضحيات تاريخية، من المؤكد أنها لن تضيع هدرًا.