د. إسماعيل بن صالح الأغبري
يُمكن القول إنَّ الصناديق السيادية نوعان، كلاهما ذو أهمية، يدلان على قوة الدول قيميًا واقتصاديًا ثم سياسيًا، وهما يمثلان الجناحين اللذين تُحلِّقُ بهما الدول، وعليهما المُتكَأ، وهما المعيار الذي من خلاله ينظر الآخر إلى هذه الدولة أو تلك.
دول لديها صندوق سيادي محسوس مادياً، يقدر بمئات مئات المليارات، وتسعى تلك الدول إلى تنميته وتعزيز مزيد من إمكانياته ومحتواه لتبلغ المكانة المرموقة بين دول العالم، وتستقطب من خلاله مزيدًا من الأموال وثقة دول العالم؛ فالدول ذات الصناديق السيادية المادية العالية تشير أحوالها إلى تلك الملاءة المالية، وهو الظهير لها والعمود الفقري الذي يصلب عودها بين دول العالم، وهو بمثابة البئر المستبحرة أي ذات الغزارة والوفرة.
دول أخرى ذات صناديق سيادية مادية إلّا أن صناديقها السيادية متواضعة مقارنة بغيرها، وهذا النوع من الدول ساعٍ أيضًا إلى تنمية هذا الصندوق وتعزيزه ليكون لها ردءًا حين الشدة، وملاذًا عند الحاجة، وظهيرًا أوقات الأزمات، وعضدًا إذا دعا الداعي إليه، إضافة إلى رسوخ مكانة الدولة، وقوة كلمتها بين دول العالم مع الثقة بها في ميادين المال والاقتصاد حتى كاد أن يكون السؤال "قل لي ما مقدار صندوقك السيادي أقل لك من أنت"! وهذا يسري على الدول كما يسري على الأشخاص في عالم اليوم.
هناك نوع آخر من الصناديق السيادية وهو الصندوق السيادي المعنوي، المتمثل في مخزون القيم والأخلاق والمثل والأعراف والعادات والتقاليد، وهو صندوق فاعل ومؤثر وورقة رابحة للدول التي تمتلكه أو تتصف به أو عندها قدر كبير منه.
إذا كان الصندوق السيادي المادي يمثل القوة الحسية للدول فإنَّ الصندوق السيادي المعنوي يمثل القوة الناعمة للدول، وعن طريقه يمكن رفد الصندوق السيادي المادي، فحسن أخلاق الشعب يعني فن التعامل وسلامة القادم إلى البلاد، وضمان عدم العدوان عليه ما التزم القادم بما يجب عليه أن يلتزم به.
والصندوق السيادي المعنوي يكون سببًا لمتانة الصندوق السيادي المادي؛ لأن الصندوق الأول وسيلة لجلب الاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال عن طريق ما تتناقله الألسن وتراه الأعين من سلوكيات الشعب، ونزوعه إلى استقرار المجتمع، وتجنب ما يعكر صفو الحياة فيه، وصفو حياة من يعيش أو يقيم عليه، فالمجتمع الآمن والمستقر بسبب ما تسود فيه من مبادئ الصندوق السيادي المعنوي مجلبة للاستثمارات وطمأنة للمستثمرين بأنهم وأموالهم آمنون.
لكل صندوق سيادي مصادر تمويل وتقوية وموارد تعزيز وتنمية، ومصادر هذا الصندوق السيادي المعنوي كثيرة ومنها ثلاثة: الفطرة أو الجِبِلَّة التي جُبِل الناس عليها بغض النظر عن الدين أو القومية أو العِرق أو اللون أو الدولة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسولا إلى قوم من الأقوام، فأساءوا معه السيرة، فسبوه وضربوه، فشكاهم إلى رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك" فدل هذا على أنَّ أهل عُمان كانوا على هذا الخلق وهذه القيمة الرفيعة من فن التعامل واحترام الآخر حتى من قبل أن يدخلوا في دين الإسلام، وإنما الإسلام عزز ما هم عليه من فطرة حسنة وقيمة من القيم الرفيعة على أن هذه السجية فرق بينها وبين (الطِّيبة) المبالغ فيها، والتي تدع الإنسان غافلا أو ساهيا، لا يدري مصالحه ومصالح بلاده، فهذه الحالة تكون سذاجة، وليس قيمة من القيم المحمودة.
الإسلام مصدر أساس من مصادر الصندوق القيمي السيادي خاصة في الشعوب التي تعتنق الإسلام، والعُمانيون منهم إذ استجاب الساسة منهم والشعب، طوعا لا كرها، رغبة لا رهبة للإسلام، وما أجمل ما صاغه الخليفة أبو بكر الصديق وما منحه لأهل عُمان من وسام من الدرجة العالية؛ إذ قال لوفدهم المعزي في وفاة النبي الكريم والمُهنئ لأبي بكر بالخلافة والمؤكد له على الثبات على الإسلام حتى بعد وفاة نبي الإسلام: "يا معاشر أهل عُمان إنكم أسلمتم طوعًا، لم يطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحتكم بخف ولا حافر، ولا جشمتموه ما جشمه غيركم من العرب، فأجبتموه إذ دعاكم على بُعد داركم وكثرة عددكم وعدتكم فأي فضل أبر من فضلكم". العُمانيون يلتزمون القيم سجيةً وطبعًا، ولا يفارقون الأخلاق والمُثل قيمًا وأخلاقًا، وليس خوفًا أو طمعًا، وخطبة أبي بكر الصديق- خاصةً آخر عباراتها- تُبيِّن تميُّز العُمانيين، ونزوعهم إلى المسالمة لمن سالمهم أما إن أرادهم أحد أو أراد بلادهم بسوء فذلك مربع يضيق عليهم البقاء فيه أو عدم مغادرته شرعا وعرفا وحمية، ذلك أن الأُسد تزأر إن نازعها أحد عرينها.
إن الإسلام مصدر من مصادر القيم، إليه الناس تتحاكم، وبه تحكم في كثير من أحوالها وقضاياها، أعلى من هذا الصندوق السيادي القيمي، ورفده بكثير منها كالوفاء بالذمة وعدم جواز الغدر ومنع الإنسان خيانة أرضه ووطنه وقومه، فحفظ الأرض في الإسلام كحفظ العِرض لا يختلفان، ولا تعارض بين الإسلام وحب الديار والأوطان، فكثير من العبادات لا تقام إلا في رحاب الوطن، وكثير من الأحكام يراعى فيها الإقامة في الأوطان، وقد ودع النبي صلى الله عليه وسلم مكة والقلب ليحزن والعين لتدمع ولفراقها محزون وهو يقول: "إنك لأحب البلاد إلي ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك"، وكم أسعد النبي أمر الله له بالتوجه في الصلاة نحو الكعبة بمكة موطنه ومهوى فؤاده من بعد أن كانت قبلة المسلمين المسجد الأقصى بفلسطين.
وقد ورد عن نبي الإسلام قوله: "إنما بُعثت مُتمِّمًا لمكارم الأخلاق"، وعليها العُمانيون عضُّوا، وبها نحو العالم ساروا نشرًا للإسلام بجميل التعامل وحسن العرض ولطف المحاورة أو عن طريق التجارة وبريدها الصدق والأمانة وتجنب الاستغلال أو الاحتكار أو الغش، وكان العُماني الداعية والتاجر إلى بلاد الصين عبد الله بن القاسم قدوة، وصار القدوة والمثل الأعلى لتلك القيم في التعامل مع الآخر حتى صار شعار: "هُويتنا قيمنا ومبادئنا" وكأنه منه مُستَمَد، وكأنه إليه المنتهى.
الأعراف والتقاليد مصدر آخر من مصادر ذلك الصندوق السيادي المعنوي؛ فالمتوارث عليه من محامدها، والمستقر العمل به من محاسنها وإن لم يكن مسطورًا أو مُدوَّنًا على شكل مواد أو فقرات حجة معتبرة لازمة في ساحات الفصل بين الخصوم.
ومن الأعراف الاجتماعية المتوارثة عند العُمانيين احترام صغير السن للكبير الطاعن في السن، ومن مظاهر هذه القيم التعزية والمواساة من خلال "سبلة العزاء" ولها آداب لا بُد من احترامها وقيم من الضرورة التمسك بها، وعلى هذا فليس من القيم في شيء أن يشتغل البعض بهاتفه فلا يرفع عنه رأسًا، ولا يصرف عنه يدًا، ولا يتوقف عن العبث في لوحته دون اعتبار لحق المجلس، ولا التفات لمن كان فيه أو كان بجواره، وليس من القيم في شيء أن يخرج الإنسان مع أصدقائه في رحلة داخلية أو خارجية وكل واحد أو أحدهما مشغول بهاتفه وكأن الهاتف هو صاحبه وصديقه ورفيق دربه.
وليس من أخلاقنا في شيء أن يكون الوالدان بجانب ولدهما وهو لهما في تجاهل عن طريق انشغاله بالهاتف مراسلة أو تقليبًا لمحتواه، وكأنه لا قيمة لوالديه أو لأحدهما عنده، فجلوسه معهما أقرب إلى العبث وهو في تلك الحالة عاق لهما.
إن ما يقع في الشوارع العامة من قيام بعض سائقي المركبات من التجاوز من جهة يمين الشارع قاطعين مسافات طويلة، فيتقدمون على من كان قبلهم ممن التزم النظام والقانون والأدب والأخلاق واحترم الآخرين حتى يصبحوا في مقدمة الناس ومن التزم يصير آخر الركب.
وهذا السلوك ينافي القيم والأخلاق، ويجانب الأدب والأعراف الحسنة مع ما فيه من استهتار بحياة الناس وأرواحهم وما يسببه من اختناق مروري بالإضافة إلى خرقهم قواعد السير ونظامه المنصوص عليها في قوانين المرور.
والجلوس في الأماكن العامة دون مراعاة قيم المجتمع من حيث الملابس أو من حيث ما يصدر عن الجالسين من تعليقات مؤذية على غيرهم من مرتادي تلك الأماكن العامة يُعد ذلك منهم اعتداءً على هذا الصندوق السيادي القِيَمِي العُماني.
كما يمكن أن تستهلك الدول صناديقها السيادية المادية نظرا لظروف ومبررات فكذلك يمكن أن يتأثر الصندوق السيادي المعنوي، وهذا بـتأثير عوامل مختلفة منها صيرورة العالم ليس قرية واحدة بل كغرفة واحدة، تنتقل سلوكيات الدول فيما بينها بسهولة ويسر وفي لمح البصر رغم البعد الجغرافي عن طريق التقنيات ووسائل التواصل.
العولمة لها تأثير على الصندوق السيادي القيمي، فالغالب أن الدول ذات المراكز المالية المتواضعة وذات الصناعات الضعيفة تتأثر بغيرها من الدول ذات الثُقل والمراكز العالمية، فتجد التقليد للآخر والافتتان به، والسعي إلى تقليده واقتفاء أثره.
العولمة في الأصل ليست الشر المحض لو أحسنت دول العالم الإسلامي استثمارها فوضعت خططا واستراتيجيات محكمة لتصدير مضامين صناديقها السيادية المعنوية إلى القوى ذات الصناديق السيادية المادية الغربية إلا أن المشكلة تكمن في الاستيراد دون التصدير وفي التأثر دون التأثير.
سعي عدد من الدول الغربية إلى فرض قيمها على غيرها من الدول، بغية الهيمنة السيادية المادية والمعنوية معا، وبسعيها فرض قيمها وأخلاقياتها على غيرها من الدول، وتلويحها بفرض العقوبات الاقتصادية على كل من لم يسع إلى تطبيق ما تريد ينافي ما تدعيه تلك الدول من مبدأ الحرية وحق الاختيار وحق الاستقلال، وهذا يؤثر سلبا على الصندوق السيادي المعنوي.
إن تلك الدول الغربية تعاني من انحلال أسري يؤثر على الحياة الاجتماعية بين أفراد المجتمع حتى بين الوالد وولده، وكذلك تعيش تلك المجتمعات حياة الفرد "الأنا" ضد حياة الجمع "معًا" وتلك الحياة القائمة على مبدأ إضعاف الانتماء الأسري تعاني من ارتفاع حاد في نسبة الأمراض النفسية ما ينعكس على استخدام السلاح داخل المجتمع؛ فتجد حوادث مهاجمة التلاميذ في المدارس، أو مهاجمة الناس في المجمعات التجارية بدوافع نفسية انتقامية.
من الضرورة بمكان السعي الحقيقي والجاد من أجل تعزيز وتنمية الصندوق السيادي المعنوي، ووقف أي تعد عليه أو تجاوز بحقه، وهذا يعني وجود خطط استراتيجية لتنميته والحفاظ على سلامته، ومن ذلك ومن ذلك وضع خطة وطنية لا تتعلق بمؤسسة معينة بل تتعلق بإرادة وطنية من جميع المؤسسات.
البرامج التربوية المكثفة لتعزيز الصندوق السيادي المعنوي ضرورة، وهذه البرامج تحتاج إلى دعم مادي. كما إن البرامج الإعلامية عبر القنوات التقليدية أو الجديدة لتنمية هذا الصندوق عبر المحاورات والمناقشات وعن طريق الأحاديث الداعمة لهذا الصندوق وعبر مقاطع قصيرة لا تتجاوز الخمس دقائق، تبث قبيل نشرات الأخبار وفي ساعات الذروة ووقت الإفطار في شهر رمضان.
إن قصة من قصص الماضين مستمدة من الواقع المحلي تعين على رفد الصندوق السيادي المعنوي، وإن قناة للأطفال ينبع محتواها من البيئة المحلية كفيل بتعميق الهوية وتحفيز الصندوق السيادي، فالطفل عندما ينشأ منذ نعومة أظفاره على صندوق سيادي معنوي يعني نشأة جيل في الدولة يحفظ القيم والأخلاق والمثل والأعراف والتقاليد، وينشأ شباب يبنون الدولة بناءً ماديًا ومعنويًا، وبذلك يتعزز الصندوقان السياديان المادي والمعنوي معًا.