ماجد المرهون
يلقي المرء الكلمة أحيانًا من لسانه ولا يلقي لها بالًا فتستثير من حوله رياحًا عاصفةً وتستحيل عليه سريعًا ردودًا قاصفةً لا تخلو من الامتعاض والتذمر وربما تصل إلى التهكم والتنمُّر، في الوقت الذي كان بمقدور ذلك المتحدث وبشيء من الحكمة إجراء حسابات ذهنية سريعة لا تتطلب إحصاءات رياضية معقدة في التكامل والتفاضل، قبل الدفع بكلماته إلى ساحات الإعلام المتنوعة، فتطير بها الركبان الخافقين لتتداولها مواقع التواصل وتتواترها تعددية الوسائط بشتى الصور والأشكال، إلى أن يجد كل متلق الحق للإدلاء بدلوه فيها، وتتعاظم بذلك الكلمة في تضخمها الشبكي ويصبح من غير الممكن السيطرة عليها لاحقًا مهما بلغت محاولات الاستدراك والتبرير.
يختلف الإعلام سابقًا عن إعلام اليوم؛ إذ بات بإمكان المتلقي المشاركة في الرد المباشر وطرح رأيه حسب رؤيته وتحليله فيصيب ويخطئ ليتجلى الفرق هنا في إمكانية التفاعل السريع مع الخبر بل والمشاركة في صناعته؛ حيث استبعدت الفكرة الجامدة للإعلام الموجه والذي لايمكن للطرف المستقبل إلا البقاء في حالة من القبول الصامت دون القدرة على الرد أو إحداث أي تغيير، كما أن المتلقي أصبح في وضع جيد من الإلمام والمعرفة التي تبقيه في مأمن عند اجتراح ردوده وتعليقاته في الواقع الافتراضي للتواصل الاجتماعي وطبعًا نستثني هنا المسميات الوهمية والمعرفات الخادعة لعلمنا المسبق بأهدافها، وعليه فإن من الحكمة على كل متحدث في الشأن العام أن يتخذ أقصى تدابير الحيطة والحرص في صياغة عباراته واختيار كلماته وسوق أدلته التي يستشهد بها لإيصال فكرته، وإلا فسوف ينقلب المعنى عكسيًا وستصل الفكرة مغايرة للمتوقع وستجلب معها ردود أفعال من المجتمع لا حصر لها واستنتاجات بعيدة كل البعد عن أصل الموضوع.
ويمثل المعيار الرقمي أصلب أنواع الإحصاء وأكثرها قدرة على الإثبات ولكنه حين يدخل في لغة التعبير عن شؤون العامة وفي أمر يعني بمعيشة شريحة كبيرة وحساسة منه فإنّه سيعود بنتائج فردية كثيرة جدًا وسوف يعبر كل فرد عن رأيه بطريقة ما، وغالبًا ما يذهب المجتمع إلى التحلل من اللغة الجدية الخشبية المفروضة عليه إلى لغة التبسيط التي تشعره بالتحرر من محاولات تقسيمه إلى فئات ومراتب مستفيدة وأخرى غير مستحقة فصلتها المعيارية الإحصائية بعد أن كان يعتقد تضمينه للفئة والرتبة ذات الأحقية، وبلا شك فإن الأسلوب الساخر هو أقرب وأسرع ماسيُعبر به الناس عن عدم قبولهم لاعتبارات بشرية إنسانية ونظرًا لافتقادهم للمعنى الحقيقي للتغيير، وإقتناعهم شبه التام بأنَّ إرادتهم الجمعية غير قادرة على أكثر من ذلك لأنَّ قدرة المشرع أكثر بسطةً في فرض القوانين والتي غالبًا ما تكون نتاج إحصائية عامة ولكنها تطبق فردية خاصة باعتبار حيثيات كل حالة.
ضالة المؤمن الحكمة وهي القدرة على التفريق بين الإلهام الفطري القويم والوسوسات الخيالية مع إمكانية توقع نتائجهما، كما أن الحكمة تنزع إلى منع الجور والحد من الظلم وهي الأداة الذهنية السامية التي تساعد على تقييم الموقف بروية واتخاذ طريقة الرد دون انفعال وآلية العمل بعد تفكير، بحيث تحول التعامل مع الشؤون العامة إلى أداة عملية تطبيقية تندرج ضمنها تدابير النفس والمدينة والمنزل أو ما يعرف اليوم بالأخلاقيات والسياسة والاقتصاد؛ فعندما يظهر أحدهم على مرأى ومسمع الجميع عبر منابر ومنصات توجه رأيها للعامة فإنَّ من واجبه توجيه خطابه بحصافة وكياسة حتى لا تجانبه الحكمة فيقع لقمةً سائغةً تعضه مواقع التواصل بنابها الأصفر وتكيل عليه المكاييل بالنسب التربيعية، وتحوله إلى مصدر قصير يسهل تجاوزه بقفزة أو عدة نطات، ويصبح ويمسي هدفًا تفرغ فيه شحنات الامتعاض والازدراء، وقد باتت الكوميديا الساخرة نوعًا قاسيًا من أنواع توصيل رسالة من باطن المجتمع ويفهم الجميع معناها ومغزاها ويجب أن تحمل على محمل الجد لأن مكنونها غير مريح.
ما أجمل الكريم الحكيم عندما يقبل على الإنفاق النابع من محبته غير المشروطة ولم تبنَ سلفًا على معيارية إحصائية للبشر في صورة أرقام مجردة، وبالتالي لن يتردد في توسيع مصارف العطاء وتضييق مصادر المنع لا سيما إذا كان متمولًا ذي سمعة حسنة، ولكن عندما نتحدث عن دولة فإن ذلك لن يكون يسيرًا على المستوى الفردي وكل على حدة، ومن الضرورة الأخذ في الاعتبار المعايير الإنسانية وإسباغها على الشريحة المستحقة تجنبًا للمظالم وبدون استحضار تصورات افتراضية واعتمادها وتهميش الواقع بغية تضييق مصارف العطاء.
وبما أن كل دول العالم تنشد تفعيل الدور التكاملي للمؤسسات لأقصى طاقتها فإنَّ ذلك قد يثقل عليها نظرًا لزيادة عدد السكان أو عدد المستحقين لخدمات المنافع الاجتماعية، وإنه من الأهمية بمكان ترشيق فاعلية تلك المؤسسات باعتماد التقنيات الحديثة قبل اعتماد وتطبيق أي قانون جديد، وهذا ما نجده في استبيانات استطلاع الرأي الذي تقوم به بعض الدول وحتى الشركات العالمية ذات قواعد المستخدمين المليونية وربما المليارية، من خلال تطبيق يسهل عملية الفرز والإحصاء ويستقبل الشكاوى والاقتراحات والآراء قبل المرحلة النهائية للتنفيذ، وبذلك يصبح المستحق شريكًا في صناعة القرار وليس مجرد رقم تطبق عليه الشروط.