د. عبدالله باحجاج
تواصلت معنا مجموعة من صيادي الصفيلح في محافظة ظفار، وعلامات الإحباط والقهر تُقرَأ من ملامحهم منذ الوهلة الأولى، طالبين مني وبإلحاح وبصورة مستعجلة نقل وجهات نظرهم إلى وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، من أجل العمل على تغيير الشروط الجديدة للغوص وصيد الصفيلح للموسم الجديد، والمقرر أن يبدأ يوم 3 نوفمبر المقبل وحتى الثاني عشر منه، وقد حصرت الغوص على الباحثين عن عمل، ومن دخله أقل من 700 ريال عُماني، بعدما كان حقًا عامًا مُنظَّمًا بضوابط تنظيمية وبرسوم خلال السنوات الماضية. وحمَّلونا مسؤولية مناشدة الوزارة ومطالبتها بالعدول عن هذه الشروط؛ لأنها لا تُراعي الواقع، وستخلق إشكاليات ميدانية كثيرة، وستُلحق بهم أضرارًا مالية جسيمة، وهم قد جهَّزوا أنفسهم لموسم 2024، بحجم إنفاق كبير ومسبق، مثل الاستئجار في الولايات الساحلية الشرقية من ظفار وشراء المعدات اللازمة للغوص، والاستعداد له منذ أكثر من شهر، وتساءلوا: كيف نتفاجأ بالشروط الجديدة قرب الموسم الجديد؟
ولدواعي الاقتراب من سيكولوجية الغوَّاصين، وانعكاسات الشروط الجديدة الاجتماعية نطرح التساؤلات التالية: هل أصحاب دخول ما فوق 700 ريال بقليل أو بكثير، حتى لو وصلت إلى 1000 ريال أفضل حالًا من دخول 700 ريال أو أقل؟ وما مدى إقبال الباحثين عن عمل "الجُدُد" للغوص خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة؟ علمًا بأن عملية الغوص تُحتِّم تأهيل الغوَّاص لفترة زمنية طويلة نسبيًا، فليس كل باحث عن عمل قادر على الغوص مباشرةً، فكيف اذا كان لا يُجيد السباحة؟! كما إن عملية الغوص تكتنفها مخاطر كثيرة؛ أبرزها البرودة والرياح وصعوبة العثور على الصفيلح بسبب تموقعه بين صخور معقدة جدًا.. إلخ. ماذا يعني حصر حق الانتفاع بثروة الصفيلح التي تتوفر على شواطئ الولايات الساحلية الشرقية لظفار؟
وعندما تأملنا في الإجابة على هذه التساؤلات، وجدنا أن القرار ما هو إلا استمرارية للتفكير الذي يُعقِّد مرحلة التحولات المالية والاقتصادية في البلاد وانعكاساتها الاجتماعية، ويحرم المواطنين من زيادة دخولهم، في وقت ينبغي أن تُتاح لكل مواطن مُجتهد إمكانية رفع دخله، ودون ذلك يعني توسيع نطاق طبقة محدودي الدخل.
وهذه الحصرية الجامدة تعني أن الهاجس المؤسسي "التنفيذي" في حالة إغراق في قضية الباحثين عن عمل وأدنى الدخول، مُتجاهلًا أن القضية الوطنية تكمن في جعل كل السُبُل مفتوحة للدخول الضعيفة والمحدودة والمتوسطة لدواعٍ كثيرة منها، حتى لا تُشكِّل الدخول الضعيفة والمحدودة الأغلبية، فليس من المصلحة الوطنية أن تُحصر عملية الغوص على الصفيلح على تلكم الفئتين فحسب، خاصة وأنها ثروة قومية، ولأهالي المجتمعات في الولايات الساحلية الشرقية لظفار على وجه الخصوص تاريخ ورهانات اقتصادية ومالية سنوية عليها.
ولنتصور شبابًا تقع منازلهم على هذه الشواطئ ورواتبهم فوق 700 ريال، لكن يُحرمون من زيادة دخلهم من خيرات الشواطئ المجاورة أو الملاصقة لهم؟ والتصوُّر نفسه لغواصين قُدامى يتدربون قبل كل موسم بشهر على الأقل، ويأخذون إجازتهم السنوية تزامنًا مع موسم الصفيلح، ويقطعون على أنفسهم التزامات مالية بنكية حتى لبعد موسم الصفيلح، ومن ثم يُمنعون فجأة من الغوص! نحن هنا نحاول أن نقترب من سيكولوجية الغوَّاص من هذا القرار مع تسليمنا بدافع حسن النية وراءه، وهي الإحساس بمعاناة الباحثين وأصحاب تلكم الدخول، لكن لماذا نحصر الأمر بدخل 700 ريال فما فوقه، ليُظهِر من القرار أنه أفضل حالًا منهم؟!
كما إن حل قضية الباحثين عن عمل تكمُن في توفير فرص عمل دائمة وآمنة لهم، وليس حرمان المحتاجين الآخرين من شبابنا لموسم مدته 10 أيام فقط. هنا تبدو القضية ضرب أرزاقٍ بأرزاقٍ، دون دراسة تداعياتها النفسية والميدانية رغم أنها مُفترَضة، وكُنَّا مُخطِّطين في هذا المقال لأن نُحلِّل عدد غواصي الصفيلح الذين يقدرون بين 800 إلى 1000 غوّاص، حتى تكون لدينا خارطة تفصيلية بمحتوى الأرقام؛ بمعنى كم باحث عن عمل، وحجم أصحاب الدخول. وإن كانت لن تُغيِّر شيئًا من هذا الطرح؛ لأن الانتفاع من موسم الغوص على الصفيلح لا يقتصر فقط على الغوَّاصين؛ بل كل أهالي الولايات الساحلية لظفار التي تتحول لياليها الى نهار طوال كل موسم، في تحوُّل لديناميكية الزمن؛ مما يكون حجم الانتفاع منها واسعًا ومُتعدِّدًا؛ فالصباح يُخصَّص للغوص، وفي المساء العمل على استخراج لحمة الصفيلح من صدفيتها، ومن ثم يتوجهون بها الى مواقع التجّار على الشواطئ؛ لبيع محصولهم اليومي وفق تسعيرة ليست ثابتة، وغالبًا ما تتراوح بين 30 إلى 50 ريالًا لليكوجرام الواحد.
ومن ثم تبدأ عملية الغسل والتفوير؛ حيث تُوضَع الكميات المتوفرة في اقدار (مراجل) وتُغمَر بماء البحر، وتشعل تحتها النار حتى تنضُج، وعقبها تُجفَّف تحت الشمس وقد تصل الى 20 يومًا، ومن ثم يتم تعليبها وبيعها في الاسواق العالمية، وبالذات الاسيوية خاصة شرق آسيا، وتُفضِّلُها هونج كونج التي تعد سوقًا رئيسًا للصفيلح العُماني لجودته ونُدرته.
هذه أبرز ملامح ديناميكية التغيُّر الزمني في موسم الصفيلح، وكل من يزور هذه الولايات في هذا الموسم سيشهد حجم الكثافة السكانية في هذه الولايات، بين صيادين وتُجَّار وعُمَّال وزائرين مع أسرهم، ومعها تكون هذه الولايات الساحلية مُنشغلة بحركة تجارية وسكنية على مدار اليوم. وكلما يكون عدد الغواصين كبيرًا، تكون حجم الاستفادة الاجتماعية والتجارية كبيرة؛ حيث يزداد الطلب على التأجير السكني وبيع المواد الغذائية وشراء المحروقات والوقود، وكذلك الاقبال السياحي من بقية ولايات ظفار للاستمتاع بالمكان وتفاعلاته.
الكل مُستفيد، ما يُشكِّل ذلك مُتنفسًا لكل ولايات ظفار الساحلية للتخفيف من الضغوط الشهرية، خاصة فواتير المياه والكهرباء، وكذلك مُتنفسًا سيكولوجيًا؛ حيث يُفرِّغ الشباب طاقتهم في كل ما هو مُفيد لهم، وينعكس على تحسين أوضاعهم المالية. فهل نتطلع إلى وقف القرار سالف الذكر، ودراسته من كل النوحي التي أشرنا اليها بعد أن أوضحنا حجم المصالح الاقتصادية والتجارية والاجتماعية للولايات الساحلية الشرقية لمحافظة ظفار؟
وإذا ما كان هناك إصرار على تطبيق هذه الراديكالية؛ فينبغي أن تمتد كذلك على كل من ينتشل رزقه من قاع البحر وسطحه، ويكون دخله ليس كافيًا أو لا يتوفر على دخل غيره، أي حصر حق صيد الأسماك على الباحثين وكل مواطن يريد أن يُحسِّن من مستوى دخله. وسنجد الشباب يُقبل على إنشاء شركات صغيرة ومتوسطة لصيد الأسماك، وستكون هذه الراديكالية لوحدها كافية لاستيعاب الكثير من الباحثين؛ لأن بلادنا من الدول الشاطئية، وتُطل على 3 بحار، ويُعاني صيادونا التقليديون من شُح الأسماك بسبب سُفن الصيد التجارية، ويشتكون من الجرَّافات التي تحصُد كل أنواع الأسماك، وقد تأثر دخلهم كثيرًا، والكثير منهم لا يُغطي حتى مصروفاته في ظل ارتفاع أسعار الوقود، علمًا بأن مصدر رزقهم الوحيد البحر، وهنا تتوفر كل معطيات الراديكالية المماثلة. فهل من السهولة اتخاذ هكذا قرارات؟ طبعًا نعم، وذلك لحجم المصالح العملاقة، وهذا قد أصبح واقعا يُعتد به، فلماذا لا يُعتد بواقع الغوص على الصفيلح كثروة قومية لها خصوصية جغرافية وديموغرافية وتحتكم لممارسات مُنظَّمة تشريعًا ورقابةً، وألا يكون تغييرها بهذه الراديكالية.