حاتم الطائي
◄ كيان الاحتلال تجرّع كأس الذل والمهانة في السابع من أكتوبر
◄ "طوفان الأقصى" قضى على أوهام الصهيونية وحطم أصنام "الردع الإسرائيلي"
◄ إسرائيل "داعش جديدة" تُمارس التوحُّش والإرهاب في الشرق الأوسط
قبل نحو عامٍ من اليوم، استيقظ العالم على أنباء غير مسبوقة، لم يشهدها تاريخ الصراع مع الصهيونية؛ إذ باغت أبطال المُقاومة الفلسطينية عدوهم وانقضوا عليه في عملية نوعية ستُرسِّخ فيما بعد لبداية حرب التحرير من نير أبشع احتلال عرفته البشرية في العصر الحديث، فكان "طوفان الأقصى" الذي جرف معه الكثير من الأوهام والأباطيل؛ وعرّى حقيقة هذا الاحتلال الغاصب الذي جنَّ جنونه في أعقاب هذه المعركة المُشرِّفة، والتي برهنت على أنَّ قوة الإرادة تغلب قوة السلاح، بينما لجأ العدو الخسيس إلى تنفيذ أشنع حرب إبادة وتجويع بحق 2.2 مليون إنسان، مُعظمهم من النساء والأطفال.
تجرّع الإسرائيليون في ذلك اليوم كؤوس الذل والهوان، وداس أبطال المقاومة من شباب فلسطين الأبيّة بأقدامهم على كرامتهم العسكرية المزعومة، فلصق بهذا العدو الغاشم عارٌ أبديٌ لن يُمحى؛ بل سيكتب التاريخ أنَّ مجموعة من الفتيان الأشداء في عقيدتهم الفدائية، استطاعت أن تحقق انتصارًا لا مثيل له في التاريخ، في سويعات معدودة؛ بل وأسروا أعدادًا كبيرًا من المُحتلين لأرض فلسطين التاريخية، وطنهم الذي لن يتخلوا عنه مهما ارتكب العدو من مذابح وفظاعات.
هكذا فرض أبطال فلسطين الهزيمة الاستراتيجية على الكيان الصهيوني، وتحطم الكثير من الأوهام على أيدي الفدائيين الفلسطينيين، وعاونهم بعد ذلك أبطال المقاومة في لبنان، الذين تحملوا الكثير من الخسائر في صفوفهم، بل وقيادتهم العليا، بعد اغتيال السيِّد حسن نصر الله أمين عام حزب الله، والعديد من قيادات الحزب. وآزرهم كذلك حركات المقاومة والرفض للمشروع الصهيوني في كلٍ من العراق واليمن.
لقد نجح طوفان الأقصى في القضاء على الردع الإسرائيلي؛ حيث وصلت الصواريخ المجنحة والطائرات المُسيرة لتضرب عمق تل أبيب وتطال كل فلسطين المُحتلة، بينما صمدت المُقاومة الفلسطينية في غزة لأكثر من عام؛ وهي تدك تل أبيب بصواريخها بين وقت وآخر. وفي الشمال؛ حيث ما يزال حزب الله يقصف بشدة، رغم جرائم الاغتيالات، ورغم أنه لم يستخدم حتى الآن الصواريخ الدقيقة، ولم يستهلك سوى عدد قليل من مخزونه التسليحي.
وفي اللحظة التي ظنت إسرائيل فيها أنَّها حققت نصرًا تكتيكيًا بعد سلسلة اغتيالات دموية دنيئة، وعندما شعر البعض أن إسرائيل تفوَّقت، جاءها الرد الإيراني الماحق، وظهرت إسرائيل على حقيقتها قزم حقير لا يكاد يُرى؛ إذ لم تقوَ بمفردها على حماية نفسها من الصواريخ الإيرانية التي كشفت عورات الوهن الإسرائيلي لولا الحماية الأمريكية والغربية لها. وفي خضم هذه الخسائر التي تكبدتها دولة الاحتلال، لجأت حكومتها المتطرفة بقيادة المُجرم نتنياهو إلى اتباع استراتيجية الهرب إلى الأمام، من خلال مواصلة حرب الإبادة وتوسيع نطاق الحرب على أكثر من جبهة، رغم حالة الانهيار الداخلي على كافة المستويات، أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا. وفيما يظن نتنياهو أنه يستفيد من الحرب للبقاء في الحكم مدة أطول، لكنه في الحقيقة يُعجِّل بزوال كيانه الاستعماري البغيض.
الحقيقة الماثلة الآن، أنَّ إسرائيل هي داعش الجديدة؛ إذ لم تعد قادرة على الزعم بأنها دولة تحترم القوانين الدولية أو تلتزم بالمواثيق والعهود، لكنها باتت تنظيمًا إرهابيًا يقوده متطرفون يهود، يدعون علانية إلى قتل الفلسطينيين والتعامل معهم على أنهم "حيوانات"، فضلًا عن تنفيذهم اغتيالات دموية وانتهاك سيادة الدول. ولذلك يُمكن وصف الوضع الحالي لهذا الكيان الغاصب بأنَّه "الداعشية الصهيونية"، فلا فارق بين تنظيم إرهابي استباح الدول ومارس التوحُّش والقتل في أشنع صوره، وبين إسرائيل الإرهابية التي تقصف المدارس والملاجئ والمستشفيات، وتُجبر المدنيين على النزوح القسري. إسرائيل الإرهابية ترتكب جرائم إبادة جماعية في كل من غزة ولبنان، وتقتل الأبرياء مع سبق الإصرار والترصد، بكل عنف وبلا تفكير في العواقب، لأنها تؤمن أنها محمية على الدوام، بفضل الدعم الأمريكي الأعمى اللامحدود، واستمرار نهج "البلطجة الدولية"، وابتزاز العالم وكل مؤسسة وشخص بتهمة جاهزة وهي "معاداة السامية"، التي كانت تمثل فيما سبق وصمة لا تنمحي!
لكن حتى فكرة مُعاداة السامية هذه قد انتهت وفقدت معناها تمامًا، لأنَّ إسرائيل نفسها أصبحت مُعادية للإنسانية، خاصة مع انهيار أكذوبة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، مع الانتهاكات الصارخة والجرائم المروِّعة بحق الإنسان الفلسطيني.
ونتيجةً لتداعيات طوفان الأقصى، تُعاني إسرائيل من أزمة ديموغرافية حادة، وغير مسبوقة، تدعم أسباب الزوال، فإضافة إلى موجهات الهجرة العكسية التي تتسارع وتيرتها وسط خرس إعلامي، فرَّ ما يزيد عن مليون مستوطن من المستوطنات الصهيونية في شمال إسرائيل، على حدود لبنان، إلى جانب الأعداد الكبيرة من الفارين من منطقة غلاف غزة، التي كانت حتى السادس من أكتوبر الملاذ الآمن والحصن الحصين لأي مستوطن، وكانت تستغلها إسرائيل للترويج للحياة المزدهرة والمستقرة والدخل المُرتفع، لجذب اليهود المهاجرين من أنحاء العالم. أضف إلى ذلك أنَّ الإحصائيات تُشير إلى أن 60% من الإسرائيليين يتجمعون في مساحة لا تتجاوز 500 كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة غزة بنحو 150 كيلومتراً مربعاً، وإذا ما أمعنا التفكير في هذا الرقم المُهم، نجد أنَّ نسبة الـ40% المتبقية، تنقسم إلى الأطفال وصغار السن أو العجائز من جانب، ومن جانب آخر أعداد جيش الاحتلال، التي تضم نحو 200 ألف جندي وضابط في الخدمة، وما يزيد عن 300 ألف ضمن قوات الاحتياط، والتي يجري استدعاء أعداد هائلة منها بشكل دوري منذ اندلاع الحرب. وهذا يُشير بوضوح إلى أنَّ المُتبقي من عدد السكان إما هربوا من جحيم الحرب، لقناعتهم بأنَّ إسرائيل لم تعد الدولة الآمنة التي يرغبون في العيش فيها، أو أنهم يُفكرون في الهجرة؛ حيث كشف استطلاع حديث للرأي أن أكثر من ربع الإسرائيليين يفكرون جديًا في الهجرة خارج إسرائيل، وأصبحت إسرائيل عاجزة عن جذب مهاجرين جدداً، كانت تغريهم بالمال والاستقرار. وهنا تكمن واحدة من النتائج الإيجابية لمعركة طوفان الأقصى، أنها أثبتت أنَّ الأرض لأصحابها وليست للطارئين عليها، ولا لمُغتصبيها، لأن المُحتل بمجرد أن يفقد ميزة الأمن الزائف الذي توفره القوة العسكرية الغاشمة، يهرب فورًا خارج الأرض المحتلة. ولذلك يمكن وصف الحالة الإسرائيلية الراهنة بأنها بلغت "مرحلة اللاعودة"، لا عودة إلى ادعاء أنَّها تملك "الجيش الذي لا يُقهر"، ولا عودة للعربدة دون حساب أو عقاب. ولا أدل على ذلك من أنَّه لأول مرة تمثل إسرائيل كمتهمة أمام محكمة العدل الدولية، كما تنظر المحكمة الجنائية الدولية في إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ويوآف جالانت وزير دفاعه، علاوة على القرار التاريخي للأمم المتحدة بأنَّ إسرائيل تحتل الأراضي الفلسطينية بصورة غير قانونية.
ويبقى القول.. إنَّ الهزيمة الاستراتيجية للكيان الصهيوني وحرب الإبادة التي يشنها في غزة ويريد نقلها إلى لبنان، دفعت إسرائيل اليوم لتكون دولة منبوذة في المجتمع الدولي، تُعاني من مقاطعة تاريخية لها ولداعميها، فضلًا عن حظر أسلحة وإدانات في المجتمع الدولي لم تحدث يومًا قط. وفي المقابل، أصبحت فلسطين قضية إنسانية عادلة، لا يجرؤ إنسان عاقل أن يتنكر لها، وباتت شرعية الاحتلال محل تساؤلات دولية عميقة، ساهمت في تنامي الدعم الدولي لقضية الشعب الفلسطيني، ما يُؤكد أنَّ الأيام المقبلة حُبلى بنتائج استراتيجية يعود الفضل فيها أولًا وأخيرًا إلى "طوفان الأقصى".