د. إسماعيل بن صالح الأغبري
إسرائيل ومن خلفها العالم الغربي بأقماره الصناعية واستخباراته العابرة لقارته وأسلحته الفتاكة وبضغوطه السياسية على الدول العربية من أجل عدم اعتراض ما تقذفه إسرائيل من عدوان يكاد يكون شبه يقيني على إيران، وضغطها على دول عربية من أجل اعتراض ما تقوم به إيران ضد إسرائيل.
العالم الغربي سخَّر منظوماته السياسية والدبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية ويشارك إسرائيل في وضع الخطط في مهاجمة المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان. ويبدو أن القرار في مركز دوائر صنع القرار الإسرائلي والغربي قد تم اتخاذه، وتؤازرهم في ذلك دول عربية راغبة في التخلص من كل شكل مُقاوِم خاصة إن كان ذي صبغة إسلامية.
ويرى هؤلاء أنه لن تكون فرصة لتنفيذ ذلك أفضل مما عليه الآن، فقد اجتمع من التأييد لإسرائيل ما لم يكن لها حتى خلال حروبها السابقة 1948 و1967 و1973 وغيرها من الأعوام، وأن العالم قد اعتاد على مشاهد الإبادة الجماعية وقصف كل ثابت متحرك؛ بما في ذلك المعامل والمشافي ومنابع المياه وخزاناتها ومراكز الإيواء؛ بل والمخابز، واعتاد العالم على رؤية الإبعاد والتهجير والطرد والتشريد كما أن الطفولة البريئة لم تعد تشكل هاجسًا في مراكز صنع القرار.
ما حل بفلسطين- وتحديدًا غزة- وخلال عام كامل لم يكن مُتخيلًا ولا مُتوقعًا، من حيث التدمير المُمَنهَج، إلّا أن غير الُمتصوَّر هو تقبل العالم الُمتحضِّر ذلك الحدث؛ أي أنه لو وقع قبيل أعوام لاهتز العالم ربما وتحرك، وبذلك نحن في زمن تتراجع فيه قيم الإنسانية إلى الوراء، وتتجدد فيه حياة الهمجية والذئاب المفترسة.
ما يجري الآن في لبنان هو عينه ما جرى ويجري في غزة، من حيث انتهاج إسرائيل الإبادة الجماعية، واتباع ما يُعرف بسياسة "الأرض المحروقة" أو ما يعرف في الشريعة الإسلامية بإهلاك الحرث والنسل "وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ" (البقرة: 205).
بل إنَّ سياسة من مضى على خُطى فرعون كانت ألطف من سياسة فراعنة اليوم، ذلك أن سياسة من مضى من فراعنة الأمس كانت تعتمد فقط قتل الأطفال "وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ" (البقرة: 49). أما سياسة فراعنة اليوم فتعتمد قتل كل ما دبَّ على الأرض مع الحصار والتجويع والتعطيش، أي مع التلذذ بالقتل، وتلك ساديّة تنُم عن حقد دفين مُتراكم مع تلبُّس بنصوص تلمودية (مُحرَّفة) في النظرة إلى من تصفهم بالأغراب وخاصة المسلمين.
قادة من المقاومة الإسلامية في غزة قد استُشهِدوا، إضافة إلى ما يقرب من 42 ألفًا من الناس العُزَّل، مع تدمير كامل للبيئة وكل ما يرمز للحياة. أما لبنان فمع حداثة المواجهة المباشرة بين إسرائيل والمقاومة الإسلامية في لبنان إلا أن العمود الفقري لها قد مسته البأساء والضراء، واغتالت إسرائيل أرقامًا صعبة فاعلة مؤثرة وبأعداد كبيرة وكثيرة ذات ثُقل ووزن في وقت قياسي ما يعني أن قيام إسرائيل بذلك ليست منفردة، بل استخبارات العالم وعدد من استخبارات دول عربية ناقمة على مقاومات فلسطين ولبنان وغيرهما، ومن المحال المكابرة بأن البنية التحتية للمقاومات لم تمس، فالضربات على المقاومة في فلسطين ولبنان كانت عنيفة شديدة تؤثر على العمود الفقري.
إسرائيل توعدت بأنها ستتفرغ لأنصار الله في اليمن، وهذا يعني أنها ستصب حممها لاحقًا على الجمهورية اليمنية، وستكون تلك الضربات على منشآت حيوية كالموانئ والمطارات والنفط وغيرها، ولو فعلت غير إسرائيل ذلك لاندلعت ألسنة الغرب ومنظماته تنديدًا ومدعية بأنه لا يجوز التعرُّض للأهداف المدنية!
المقاومة الإسلامية في العراق ليست بمنأى عمّا تم اتخاذه من قرار إسرائيلي غربي، لذا إسرائيل ستوجه تلك الحرب الجائرة لتلك المقاومة حتى تتأكد أن العالم الإسلامي خلا من أي شكل من أشكال المقاومة!
الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمثل العمود الفقري لجميع أشكال المقاومة المشار إليها آنفًا؛ تمويلًا وتسليحًا وتخطيطًا، وقادة من الحرس الثوري إضافة إلى خبراء ومستشارين قد شاركوا في التخطيط، كما إن عددًا منهم قد تعرض للاغتيال في غارات وضربات جوية.
يبدو أن الأيام- إن لم تكن الساعات المقبلة- قد تشهد قصفَ إسرائيل لمفاصل حيوية في إيران، وهذا بتنسيق مع دول غربية على أمل قطع الرأس المدبر لجبهات المقاومة وشريان حياتها.
وهناك دول إقليمية لها حسابات مع إيران راغبة في إضعافها؛ بل تذهب إلى أبعد من إضعافها، وبعضها لم تزل لديها عقدة من نوع النظام الحاكم في إيران، كما إن لديها عقدة من كل المقاومات خاصة التي تحمل بُعدًا دينيًا.
الدول الغربية وإسرائيل ودول عربية تترقب وجود عالم عربي خالٍ من كل أشكال المقاومة ضد إسرائيل، لأنها الحائل من انطلاقة التطبيع، والمعرقل من انسيابية العلاقات الدبلوماسية بين العرب وإسرائيل، والمؤجج لمشاعر العداء ضد إسرائيل، والمُحرِّض الأساس للشعوب لعدم الاعتراف بإسرائيل، إلّا أن الدول العربية خاصة المناوئة للمقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق والمناوئة لإيران ينبغي عليها قبل أن تأخذها نشوة الفرح بما يحل بالمقاومة ومن يدعمها أن تأخذ في الاعتبار بأنه كان ينبغي لها أن تعتبر أشكال المقاومة رصيدًا لها لا عليها، بغض النظر عن موقفها مما يُسمى بـ"الإسلام السياسي"؛ ذلك أن بقاء هذه المقاومات يُخفف عنها ضغط الغرب عليها من أجل التماهي مع إسرائيل، وهي وسيلتها في دفع الضغط على اعتبار أنها لا تستطيع التماهي بسبب وجود حركات المقاومة، فغياب المقاومة يعني غياب مبرر التردد في عدم انسيابية العلاقات مع إسرائيل.
إن الدول العربية التي تأخذها نشوة مهاجمة إسرائيل لإيران وإنهاك المقاومة تقود نفسها إلى ما يشبه الانتحار؛ فهي تحرق أوراق قوتها وأدوات ضغطها وتفرط في وسيلة تخلصها من ضغط القوى الكبرى. وكان ينبغي للدول العربية الوقوف ولو بطرف خفي، مع هذه المقاومات ومع إيران؛ لأنها لو انكمشت أو تلاشت سيجعل من الدول العربية مكشوفة مع إسرائيل غير قادرة على تبرير عدم إقامة علاقات مع إسرائيل أو انسيابية العلاقات.
العقل السياسي يقتضي مساندة المقاومة؛ سواء أكانت هذه المقاومات من منطلقات وطنية أو قومية أو إسلامية، أو كانت يسارية أو إسلامية أو حتى شيوعية ماركسية، ما دام يرفع الضغوط عن الدول العربية، ويوجِد لها المبررات في المماطلة بعدم التطبيع.
لو افترضنا أن العدوان الإسرائيلي على إيران أضعف قدراتها، وأن ضرباته على المقاومة في تلك البلدان أدى إلى اختفائها فمن الذي سيوقف إسرائيل عن فرض الحل الذي تريده من الدول العربية؟ ومن من الدول العربية سيجرؤ على التقليل من الطموحات والأطماع الإسرائيلية؟ ثم إن إسرائيل والغرب يريدون دولا عربية في قادم العقود من الزمن وفق مواصفاتهم فالدول العربية لا بد أن تكون بمثابة حديقة ومنتزه لإسرائيل، مستودع لنفايات إسرائيلية وغربية، وتكون مكانا لتسويق كل منتج وبضاعة إسرائيلية ما يعني بوار المنتجات المحلية لكل دولة عربية من غير قدرة على وضع شروط ومواصفات تتعلق بما يرد إليها من إسرائيل.
إسرائيل بعد التطبيع معها لن تتعامل مع الدول المُطبِّعة على أنها دول ذات سيادة ندٌ لها وكفء؛ بل ستنظر إلى هذه الدول بعلوٍ وفوقية؛ لأن قادتها لا ينفكون عن نصوص التلمود وما حوت.
العقل السياسي الناضج كان يُحتم على الدول العربية الوقوف مع إيران ودعم المقاومات ولو اختلفت الآيدلوجيات؛ لأن اضمحلال المقاومة يعني سيادة إسرائيلية مُطلقة على الدول العربية، فإسرائيل لها ظهر وعمود فقري وهو الغرب فمن ظهر الدول العربية؟ وما عمودها الفقري، وقد كسرت عمودها بذاتها بسبب حسابات ضيقة.
إن ما صرحت به إسرائيل من أنها راغبة في شرق أوسط حسب مقتضياتها يؤذن بتعالي إسرائيل على الدول العربية، ولا يستبعد أن تسعتين بدول عربية على دول عربية، مغرية لها ببعض الخدمات التقنية والمزايا التفضيلية الآنية؛ ما يعني إدخال إسرائيل الدول العربية في حروب بينية، وكل دولة عربية سوف تسعى للتشبث بإسرائيل لحمايتها من دولة عربية أخرى، أو لتزويدها بما يضر بالدولة العربية الأخرى.
إن إسرائيل سوف تجعل من كافة الدول العربية في حالة قلق من بعضها ما يعني سعي الجميع نحو إسرائيل لعلها تلجم أو تكبح جماح الدولة العربية الأخرى وهو عين ما يقع حاليا عندما تستغيث دول عربية بأمريكا الداعم الأكبر لإسرائيل!
وختامًا أكرر القول إن مقتضيات العقل السياسي الناضج تدعو الدول العربية لدعم الدول المقاومة لإسرائيل ودعم أشكال المقاومة، ولو من طرف خفي؛ سواء أكانت هذه المقاومات منطلقاتها إسلامية أو قومية أو حتى ماركسية شيوعية.