الصين.. اللؤلؤة الآسيوية

 

مدرين المكتومية

ظلتْ معرفتي بالصين حتى أيامٍ قليلة ماضية، تنحصر في كونها أكبر مصنع في العالم وتضم أكبر عدد من السكان، وأنها الدولة الكبيرة مساحةً ومكانة دولية، لكنني لم أكن أعلم جيدًا طبيعة هذا البلد في داخله، لرُبما كنت أكتفي بالنَّظر إلى الصين من المنظور الصحفي فقط بموجب طبيعة عملي، لكن كل هذه الصورة النمطية التي احتفظت بها تبدّلت تمامًا منذ أن وطأت قدماي هذا البلد المُدهش بمعنى الكلمة.

رغم أني كنت أحسب ألف حساب للعائق اللغوي وطبيعة الأطعمة والمشروبات المُتاحة هناك، لكن ذلك أيضًا تلاشى تمامًا؛ حيث تكشفت لي ذائقة صينية لذيذة، تعتمد في الأساس على الأطعمة الصحية الخالية من الدهون المهدرجة أو المأكولات المقلية في الزيت أو تلك التي تعتمد على الوجبات السريعة مثل البرجر أو الدجاج المقلي.

في اليوم الأول من زيارتي الحالية والتي تستمر حتى يوم الجمعة، أدركت الكثير من الحقائق عن الشعب الصيني، أولها أنَّه مُحب للعمل، ويستقيظ مبكرًا؛ إذ يبدأ يوم عملنا في الساعة السابعة كل صباح، ويمتد حتى غروب الشمس، أي ما يزيد ربما عن 12 ساعة، من العمل المُتواصل، باستثناء استراحة الغذاء التي قد لا تتجاز ساعة واحدة في كثير من الأحيان.

الدعوة الكريمة التي تلقيتها من دائرة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، والتي تمثل أحد أبرز المكوّنات في الدبلوماسية الصينية القوية، أتاحت لي الفرصة لاستكشف جمال وروعة دولة الصين، ومستوى التقدم الحضاري والإنساني والمعرفي والاقتصادي والاجتماعي الذي بلغته هذه الدولة بفضل السياسات المتقدمة التي تعكف الحكومة الصينية على تنفيذها منذ عقود طويلة، وحققت نجاحات غير مسبوقة، تمثلت في انتشال عشرات الملايين من براثن الفقر، وتعزيز نمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحويل الصين إلى أكبر مصنع في العالم، ومركز دولي مرموق لتقنيات الذكاء الاصطناعي وصناعة الشرائح من أشباه الموصلات.

أثناء كتابتي لهذا المقال في إحدى صالات الانتظار بمطار داخل الصين، استعدادًا للانتقال إلى مقاطعة أخرى، لفت انتباهي أن الكثير من الصينين خلال سفرهم يحرصون على أداء أعمالهم أو قراءة كتاب، أو حتى التأمل والاسترخاء، استعدادًا ليوم عمل طويل. كما لاحظت أن الشعب الصيني يضع العمل في مكانة عالية، ضمن قائمة أولويات حياته، فالجميع هنا مُنهمك في أعماله، كل من تشاهده من حولك يمضي في حياته العملية بدون توقف، لكنهم في الوقت نفسه يعرفون كيف يستثمرون أوقات الفراغ. قد يظن من يقرأ هذه السطور أن الشعب الصيني منغلق أو لا يحظى بالترفيه المناسب، لكن على العكس تمامًا، فالسياحة الصينية الداخلية مُزدهرة للغاية، بل إن القطاع السياحي الصيني يعتمد في نموه بالأساس على السياحة المحلية، سكان الشرق يسافرون إلى الغرب، وسكان الجنوب يتنزهون في الشمال، والعكس صحيح، وذلك على مدار العام، لكن ما عرفته أنَّ أكثر موسم تزدهر فيه السياحة يتزامن مع رأس السنة الصينية من كل عام أو ما يُعرف بـ"عيد الربيع".

وخلال رحلاتي للعديد من مختلف دول العالم، دائمًا ما أضع عنصر الأمن والأمان على قائمة هواجسي الشخصية، خاصة في ظل ما قد يتعرض له العرب والمسلمون من مواقف غير جيدة في عدد من البلدان، لكنني لم أشعر بأعلى مستويات الأمن والأمان كتلك التي شعرت بها في الصين، فقبل السفر إلى الصين لم أكن أتخيل نفسي أسير في الليل بمفردي بين الممرات الضيقة وفي الطرق المزدحمة، بكل أمن وأمان، لا أحد ينظر إليك، رغم اختلاف الهيئة والملابس والشكل، لأنهم ببساطة منهمكون في أعمالهم. هم يرفعون شعار "العمل مُقدس".

ورغم ازدحام الشوارع لكنه ازدحام مُنظَّم جدًا وغير مُربك أو مُعطِّل لحركة السير، وقد حاولت أن اكتشف هذه الشوارع بنفسي، واستقليت سيارة أجرة وتنقلت لأكثر من موقع، ولمستُ تعاونًا من الجميع، رغم حاجز اللغة.

الصين هي التكنولوجيا الممزوجة بروح الأصالة والتقاليد الآسيوية العريقة، هي ناطحات السحاب المُذهلة ومزارع الشاي التقليدية، هي وسائل النقل العامة القائمة على التكنولوجيا والطاقة الخضراء، وهي التي تزدهر فيها الدراجات الهوائية، لا سيما في المدن الصغيرة، هي المطاعم التقليدية التي تحافظ على التراث الصيني.

شعب الصين يسعى للتنمية ويسعى للتقدم ويدعم حكومته في هذا الجانب، فكم فاجآني أن علمت أنَّ المواطنين في مقاطعة فيوجن تبرعوا براتب شهر كامل من أجل توسعة وبناء مطار المقاطعة، وهو عمل يعكس حس المسؤولية الاجتماعية لدى أبناء المنطقة؛ لضمان توفير كافة السبل لتصبح مُقاطعة متقدمة.

إننا في سلطنة عُمان بحاجة إلى الاستفادة من التجربة الصينية في مختلف المجالات، لا سيما في النهضة الاقتصادية التي تحققت هناك، وازدهار قطاعات مثل التصنيع والخدمات واللوجستيات والموانئ، نُريد أن نتعلم من الشعب الصيني ثقافة "العمل المقدس"، وعدم الركون إلى الوظيفة الحكومية التي ربما لن تأتي. علينا أن نتعلم من الصينيين حُب الحياة والانفتاح على الآخر، مع التمسك الشديد بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا.

الأكثر قراءة