روقة

 

 

أنور الخنجري

alkhanjarianwar@gmail.com

 

 

نعم روقة [1]، إنها روقتهم اليومية التي يكسبونها من عرق جبينهم، ريالات عُمانية لا تتعدى أصابع اليدين في اليوم الواحد يكفلون بها عائلاتهم ويُبعدون عنهم شبح العوز والطلب، يفترشون الأرض تحت لهيب الشمس الحارقة أو يقفون صناديد على بسطاتهم المُتواضعة المنصوبة بجوار بوابة مدينة مطرح العتيقة.

عهدناهم هناك منذ نعومة أظفارنا، تغير حكام وتغيرت حكومات، تغير المسؤولون والمهتمون والباعة والسلعة، والمكان هو المكان، جيلا بعد جيل، هم ومن سبقهم كانوا يعرضون ما تيسر من بضاعة بسيطة قلما تجدها عند باعة آخرين في سوق مطرح، حلويات وأجبان وأكلات عُمانية بسيطة تخضبت بها أنامل الأسر المتعففة أو منتجات زراعية عُمانية موسمية كافح البيدار من أجل حصادها من مقصورته [2] القريبة وبيعها في سوق المدينة، المدينة العُمانية التي كانت يومًا الأكبر والأكثر اكتظاظا بالبشر، المدينة البوصلة مقصد الآتين من الاتجاهات الأربعة. وبجرة قلم من مسؤول غير مسؤول تغيَّر وضع الباعة من حال إلى حال، توقف نشاطهم دون إيجاد البديل، ودون وجود بارقة أمل بالعودة إلى موقع كان يوماً جزءا من تراث سوق مطرح العتيق، سوق مشابهة لكثير من الأسواق الشعبية في معظم دول العالم، بحوانيتها وبسطاتها وبسطائها وبساطتها.

فجأة أقفر المكان بعد أن علَّق المسؤول قرار المنع على بوابة مطرح- لا يسمح البيع في هذا الموقع، كل من يُخالف ذلك يعرض نفسه للمساءلة القانونية- التزم الباعة خوفًا من العواقب، خوفاً من الغرامة والعقاب، وهم في الأساس لا يملكون كفاف يومهم فما بالك بغرامات لا طاقة لهم فيها. وبالمقابل حقق كومار انتصارًا آخر على الوطن والمُواطن، اختفى عدد آخر من الباعة العُمانيين من سوق مطرح، أفرغ السوق من رموزه، من ناسه، من تراثه ومن رواده المتجانسين مع المكان. كما سبق واستولى الوافد على محلات سوق مطرح وبالتالي أفرغت المدينة من سكانها العُمانيين، وهكذا تغيرت ديموغرافية المكان لصالح من رحمه ربي من أبناء شبه القارة الهندية.

تشتت الباعة العُمانيون بين جدران السوق تائهين بين مسؤول ومسؤول، طرقوا كل الأبواب المُمكنة بحثاً عن حل، وصلت مطالبهم إلى الجهات المعنية، لجأوا إلى الشيوخ والأعيان، استعانوا بممثليهم من أعضاء مجلسي الشورى والبلدي، استخدموا كل الأوراق قبل أن تحترق في أيديهم للأبد، لكن لا حياة لمن تنادي، وبعد طول انتظار لما يقرب من عامين على هذا القرار، لم تفلح محاولات العودة إلى المكان، تبخرت الأحلام وتبخرت معها موارد الرزق في هذا المكان الذي ارتبط بذاكرة الكثير من العُمانيين على مر العصور.

نتفق أنَّ البسطات كانت بسيطة وعشوائية تُسيء للمنظر العام وتؤثر على حركة المارة ومرتادي السوق، لكن نتفق أيضًا أنه كان من الأولى أن يتم التفكير في كيفية التنظيم وإيجاد البديل قبل اتخاذ القرار. كان من الأجدى تنظيم عمل هؤلاء الباعة بصورة مغايرة تراعي خصوصية السوق وأقسامه، كتهيئة عربات أو أكشاك منظمة مرخصة موحدة التصميم والألوان توزع في زوايا مختلفة من السوق؛ بما فيها الأماكن المتاحة بجوار بوابة مطرح، أو أن تقوم بلدية مسقط بتبني برنامج تطويري للمنطقة المحيطة بسور المدينة وبوابته الرئيسية (الدروازة) وإثرائها بالرموز المعمارية الداعمة لهوية المكان المعمارية والحضرية ومن تلك الرموز مثلاً إعادة بناء أو تهيئة جزء من سور مطرح العتيق بحيث تنصب على جنباته أكشاك منظمة ومرخصة لبيع المنتوجات المحلية أسوة بما هو معمول به في كثير من الأسوار والأسواق الشعبية في العالم. إن مثل هذا التنظم سيعطي جمالية للمكان ويوفر مصدر رزق لهؤلاء البسطاء ولغيرهم من الشباب الباحثين عن عمل ليدخلوا تدريجيا ك باعة وأصحاب مال وأعمال في سوق مطرح.

كلمة أخيرة.. سوق مطرح الشعبي التاريخي يمثل أحد أهم عناصر الجذب التجاري والسياحي في المدينة لكنه بكل أسف مغلوب على أمره ولم يحرك بشأنه حتى الآن قرار يعيد له هويته العُمانية التي افتقدها منذ سنوات طويلة. نأمل ألا يطول هذا السكون والإهمال ودفن الرؤوس في الرمال.

***

  1. يستخدم العُمانيون مفردة "روقة" لتعني الكسب أو الرزق أو النعمة أو العيش، وفي المعجم الوسيط رَوَّقَ السِّلعةَ: باعها واشتَرَى أجْوَدَ منها، ورَوَّقَ له في السِّلعةِ: رفَعَ له في ثمنِها وهو لا يُريدها .
  2. المقصورة: المزرعة الصغيرة أو الحديقة وفي مُعجم المعاني الجامع المَقْصُورَةُ: كل ناحية على حِيالها من الدار الواسعة المحصَّنة.

تعليق عبر الفيس بوك