أحمد الفلاحي.. "أجواء الأسئلة"

 

د. زينب العسال

من أهم كتب الحوارات كتاب "عشرة أدباء يتحدثون" للناقد المصري فؤاد دوارة، فهو من المراجع التي يعتمد عليها الباحثون والقراء بعامة في استكناه آراء الشخصيات التي قدمها الكتاب.

أجواء الأسئلة كتاب عن المثقف العُماني أحمد الفلاحي، يقدم " بورتريه" فنيًا ثقافيًا شارك فيه أكثر من عشرين محاورًا.

وتأتي أهمية شخصية أحمد الفلاحي أنَّه من نوع المثقفين العضويين الذين يثيرون القضايا، لديه القدرة على التأثير في الأجواء الثقافية، سواء من خلال إسهاماته- كمثقف- في الساحة الثقافية العربية، أو بتقلده العديد من المناصب الأدبية والسياسية. إضافة إلى عمله- كرجل إعلام- في العديد من الوظائف التي أكسبته خبرات لافتة. أتاحت لي سنوات عملي في السلطنة أن أتعرف إلى أدواره اللافتة في تحريك البيئة الثقافية العُمانية، وربطها بالواقع الثقافي الخليجي، فالواقع الثقاقي في آفاقه العربية، ثم اتصال ذلك بالثقافة العالمية في أحدث تجلياتها.

أجواء الأسئلة إبحار في عقلية وضمير هذا المثقف الذي يتمتع بالهدوء والصراحة وسعة الأفق ووضوح الرؤية والمعرفة التراثية، فضلًا عن الوقوف على ساحل المعاصرة التي يراها شاطئ الأمان في عالم متلاطم، فلا بُد للمثقف أن يتسلح بالمعرفة الثاقبة، بحيث يفيد منها في ربط الوقائع والأحداث إنه باختصار واحد من المشاعل الذي حملوا لواء التعريف بالحياة الثقافية العُمانية، بداية من الدورية الصغيرة، الجميلة" الغدير" ومتابعتها للأنشطة الثقافية فى ولايات السلطنة، واستمرارًا في الحوارات التي أجراها مع رموز مهمة في مجالات الإبداع والفكر والدراسة التاريخية والتراثية، إلى جانب حوارات أجريت معه بواسطة شخصيات التقته في المجالات التى شغلت اهتماماته.

قدم الفلاحي للكتاب بمقدمة للكتاب الذي يتضمن مجموعة من الحوارات، بدأها بحوار الروائي المصرى محمد الراوي المنشور في جريدة الوطن العُمانية في أواسط عام 1979، والثاني للروائي محمد جبريل مدير تحرير جريدة الوطن آنذاك. أما الحوار الثالث فهو مع الكاتب السوداني خالد عبد اللطيف المشرف الحالى علي الملحق الثقافى بجريدة الوطن. ولعل المعنى في توالي الحوارات الثلاثة أن جريدة الوطن العُمانية هي الأقرب إلي وجدان أحمد الفلاحي. وجريدة الوطن وهي مؤسسة أهلية صدرت قبل صدور الجريدة الحكومية (جريدة عُمان) التي تصدرها وزارة الإعلام.

الحوار الرابع عنوانه "وجوة وأسئلة" خصصه الإذاعى صالح العامرى للحديث عن "قصيدة النثر" كواحدة من أهم الحركات التي شهدتها حركة الشعر في الوطن العربي، ومدى أثرها ونتائجها وتوابعها التي أحدثتها في شعرنا العربي.

توالت الحوارات، بداية بالحديث عن النشأة والتكوين، ثم العروج على الأنشطة المتنوعة، والاهتمامات والمهام التي انشغل بها أحمد الفلاحي.

كلما تقدم القارئ في قراءة الكتاب، وجد نفسه أمام فكر واحد من المثقفين العرب وهمومه وآماله ومعاناته. ولم لا، وهو الذى ولد في بيت كل من فيه يقرأ، سواء رجالًا أم نساء وعلى حد تعبيره، ولد في يديه كتاب، فقد كان في بيت أبيه مكتبة كبيرة موسوعية، ومن ثم عرف القراءة والكتابة في سن باكرة، وحفظ الكثير من سور القرآن الكريم.

 هكذا توالت الحوارات واحدًا بعد آخر، متنقلة من مرحلة إلي أخرى، عبر سيرورة الزمن، ونضوج التجربة، تبين عن الرجل الذي يعي تمامًا ما هي الثقافة وأثرها في البيئة والعكس، فالبيئة ثقافية تشجع على طرح الأفكار والآراء، وتنعكس في وسائل الإعلام.

المشهد الثقافي العُماني، انطلاقًا إلى المشهد الثقافي العربي بعامة، يرسم تكوينات بورتريه شخصية "الفلاحي". إنه وقوف متأنٍ للأفكار والرؤى والمشكلات الثقافية والفكرية، وتطور المجتمع العربي بشكل عام والمجتمع العُماني بشكل خاص.

تقف الحوارات طويلًا أمام النتاج العلمي الثقافي التاريخي للعلماء والشعراء والمفكرين العُمانيين، بعضهم عرفناه من خلال المخطوطات وكتب التراجم، والبعض الآخر سقط من ذاكرة التاريخ، أو تم ذكره سريعًا في كتب التراث العربي.

وإذا كانت الحوارات وقفت بالدرس والتحليل أمام القضايا والآراء، فإنها ذكرت ما أسهم به الفلاحي إبداعيًا، مع ذلك فإن الفلاحي لا يرى نفسه شاعرًا أو قاصًا، مرد ذلك سمة التواضع التي عرف بها الفلاحي بين مثقفي السلطنة، رغم أنه أسهم بحظ وافر في رصد حركة المجتمع ومتابعة نهوضه وتقدمه، وفي الإحاطة بأزمة الثقافة العُمانية. وفي الترجمة لإعلام الشعر العربي، كما فعل - مثلًا - بالنسبة للجواهري.

جاء الكتاب ممنهجًا بعرض العديد من القضايا القديمة، ثم تناولها في فترات سابقة، وهنا نلمح أن رأى "الفلاحي" يرتكن على ميراث وتراث وتجارب ومشاهدات وأسفار وترحال عبر مئات الكتب، فهو قارىء قبل أن يكون كاتبًا, وكاتب قبل أن يكون رجل سياسة، له ثقافته المتعمقة في التراث العربي عامة، والتراث العُماني على نحو خاص. يحدثك عن كل هذه الأوجه بتواضع جم. حتى أنه يطلق علي كل من يذكره لقب الأستاذ أو الدكتور.

يتحدث الفلاحي عن أثر العلوم، وعن التربية والتعليم، والإعلام وأثره في تقديم المبدعين والمفكرين، وأثر أندية الأدب ومجلته الرائدة الغدير، وبداية النهضة وموقف السلطان قابوس في مواجهة جماعة المنشقين، حتى التأم النسيج الشعبي، وانصهرت المواقف في بوتقة التقدم والرقي، والأخذ بأسباب الحضارة والمدنية، وإرسال البعثات، ودراسة تجارب الآخرين، والإفادة منها.

في كل الآراء والأدوار نجد للفلاحي قدرًا كبيرًا من التفاؤل، فهو يؤمن بالمستقبل، وبالأجيال الجديدة، ويفرد مساحة كبيرة للشعر وقضاياه، والمراحل التي مر بها، مع الحرص على العودة إلي الجذور التراثية العربية. كانت هذه الموجات بمثابة رئة جيدة لانعاش الإبداع العربي. ردفها البحث في الجديد، وإن كان ثمة قواعد من الممكن تتبعها، ونصغي إلى رأيه في الحداثة التي تشهدها الفنون القولية، ونتابع انتقاله إلي مجال آخر هو الإعلام والمشكلات التى صادفته، وكيفية التغلب عليها، وكيفية خلق أجيال تالية من الإعلاميين.

يرى الفلاحي أن تجربته في المجالات الابداعية لا تعدو أن تكون محاولات محب للابداع، وأعتقد أن الفلاحي لو جمع ما كتبه نثرًا وشعرًا فسيهبنا وثيقة تعكس أهمية الشخصيات التي حاورها، وتحاورت معه، بحيث توضع هذه التجارب تحت أيدى الباحثين والنقاد.

وإذا كان الفلاحى قد تحدث عن النهضة التى يشهدها الابداع العُمانى، فلست أتصور أنه أغفل عن عمد منجز المرأة الكاتبة، ثمة عائشة بنت راشد بن خصيب الريامية البهلوية، وكانت عالمة وفقيهة ومفتية عُمانية، لها مكانتها بين علماء الدين، والشاعرة سعيدة خاطر الفارسى، والروائية جوخة الحارثي الحاصلة على جائزة البوكر، وبدرية البدرى ومنى المعولى وبشرى خلفان وبدرية الشحى وهدى حمد وغيرهن.

في حوارات أخرى ينفي أحمد الفلاحي عزلة الإبداع والفكر العُمانى عن المحيط العربي، فقد أسهم الابداع والفكر، والثقافة العُمانية عمومًا، في تكوين الحضارة العربية. علم العروض- مثلًا- وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدى وقد أطلق أسماء أوزانه "الكامل والوافي" على مناطق عُمانية.

ويؤمن الفلاحي بالحداثة الخلاقة لا الحداثة الملغزة القائمة علي الرموز الغامضة، إنها مذهب أدبي ومنهج جديد في الكتابة، يعني بالجديد والمفيد.

إنه مع الجديد الذى لا يهدم، الذى ينهض على القديم وينطلق منه، ويرتقيه ليلائم العصر. الجديد هو الغد والمستقبل، مهما تكن شطحاته ومبالغاته، ولأنه يملك روح التفاؤل في القادم فهو يرى أن الغد الثقافي أفضل تعبيرًا عن روح العصر الذى نعيشه (من حوار أجراه عاصم رشوان ونشر في جريدة الخليج).

رغم ذلك فإن الفلاحي يؤمن إيمانًا راسخًا بتماسك النوع الأدبي، ولا يؤمن باختلاط النوع. ثمة حدود يجب ألا يتخطاها المبدع، وهو يكتب القصة أو القصيدة أو المقالة.

ولا يغفل الفلاحي الإشارة إلى الجمود الثقافي الذي ظلل السماوات العربية، على مدى عقود، وملامح النهضة التي تطالعنا- الآن- في الجامعات والمعاهد العليا، والبعثات الثقافية، والتنمية في كافة المجالات، ومنها التعليم والثقافة وظهور الأندية والفرق الفنية.

وكما نعلم، فقد كانت الفرقة السيمفونية العُمانية من أولى الفرق المماثلة في الوطن العربي، وأتيح لي- شخصيًا- متابعة عروض لها، ونشطت الحركة الإعلامية، وإصدار الدوريات ودور النشر الأهلية، والمعارض والفعاليات الثقافية.

لعلى- ختامًا- أشير إلى قول الفلاحي "بلادنا- بلا شك عندي- مهيأة لأن تكون مركزًا للفكر والثقافة، ترنو إليه الأبصار في المستقبل".

يقع الكتاب في 592 صفحة من القطع الكبير، صادر عن مؤسسة الانتشار العربي.

تعليق عبر الفيس بوك