40 عامًا في صحبة عبدالعزيز الروّاس

 

 

د. مجدي العفيفي

(1)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الروّاس».. أعزِّي نفسي..

قبل أن أعزي أحدًا في وفاة «عبدالعزيز الرواس» الرمز والكينونة، والشخص والشخصية، رحمه الله، فكل شيء هالك إلّا وجه الله، وكل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام.

وأُعزِّي نفسي.. أكثر مِمَّا أُعزي أبناء الأرض العُمانية الطيبة التي لا تقبل أن تنبت إلّا طيبًا، وهي التي عِشتُ في جنباتها صحفيًا وكاتبًا ومُحبًا، يوم أن هبطتُ فيها في ربيع العمر، وغادرتها وأنا في خريف العمر، وقد لبثتُ فيها ثلاثين عامًا مُتواصلة، ولا أزال، رغم البُعد الجغرافي.

وأعزِّي نفسي.. الأمَّارة بالإعلام والثقافة والسياسة، وأنا أمارس ألم الإحساس بالفقد، وهو إحساس ألمه مضاعف إزاء شخصية بلورية دائرية مُعقدة، مثل وزير الإعلام الأسبق ومستشار جلالة السُّلطان للشؤون الثقافية السابق، وقد تجادلت معه 40 عامًا في سردية حياتية مُتناسِجة ومُتناسِقة، عنوانها: حروف من صحافة وثقافة وسياسة.

(2)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

ويا سماء عُمان

ما كل ليل من لياليك تظفرين بكوكب!!

(3)

40 عامًا في صحبة عبدالعزيز الرواس.. قربًا ذاتيًا وموضوعيًا، واقترابًا حميميًا مُتواصلًا.. صحفيًا وإعلاميًا وفكريًا وثقافيًا وإنسانيًا، حقًا وصدقًا ويقينًا إنها «عشرة عمر»..!

79 عامًا هي عمره الزمني الطبيعي، حياة مدثرة بالعمل والألم والأمل، والسياسة والإعلام والثقافة، والأسرار والملفات والقضايا والجدليات والتوترات، لكن عمره النفسي ضعف ذلك الرقم، عاشه بذات مُمتلئة بذوات الآخرين! فالعمر لا يُقاس بالشهور والأعوام بقدر ما يُقاس بغزارة الشعور من عدمه، طبقًا لرؤيته.

50 عامًا في خدمة عُمان، الدولة والمجتمع، لم يمل، ولم يكل، حتى آخر العمر، كان يؤمن يقينًا بـ«كلنا نعمل في منظومة واحدة ووحيدة هي عُمان، الشخصنة ليست واردة في القاموس العُماني الحديث، والأوطان لا ترتبط بالأشخاص".

(4)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

في مرحلة ما قبل النقطة الأخيرة في سطر حياته.. تعددت لقاءاتنا، وتكثفت حواراتنا.. وتشعبت جدلياتنا.. في ما وراء الأشياء.. واقعًا وحياة.. وحوادث وتحولات.. كان استقطار الخبرات والتجارب والأسرار والمسكوت عنه وثقافة الأسئلة، والتفكير في اللامُفكَّر فيه.. بأكبر سعة من المعاني في أقل قدر من التعبيرات.. ففي ذاكرة الروّاس كان الزمن الطبيعي يتلاشى.. تتداخل اللحظة الفائتة، في اللحظة الآنية، باللحظة الآتية، لحظة دائرية بلُّورية.. زمانها في مكانها.. تتشابك الرؤية بالرؤيا.. ويمور الذاتي بالموضوعي.. ويتلاقى الداخل بالخارج، والقاسم المشترك هو «الأنا» الخفية قصدًا، والمستترة عمدًا هي الرابط بين كل أولئك.

(5)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

منذ أن انضممت عام 2003 إلى مكتبه- مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية- تكاثرت معه حوارياتي. وتناثرت مُناقشاتي.. وتعاظمت مناوشاتي.. ليس فقط بحكم كونه كان وزيرًا للإعلام ولكوني رجل إعلام، عاش معه وعايشه عن كثب؛ بل أيضًا لطول العشرة الاجتماعية وتعزيز خطوط الألفة الفكرية والفؤادية، وتمتين خيوط الروح العلمية والعملية، لتجاوز الإطار الضيِّق لفضاء التشابك بين الشخص والشخصية.

أيام وليالٍ إعلامية وثقافية وسياسية، محليًا وإقليميًا وعالميًا، ستظل تجلياتها ممدودة ومُشعة على جبل الشوق والسرد المقدر، والخطاب بعذاباته الجميلة، والحكي بعذوبته الأكثر جمالًا.

كثيرًا ما كان يُغالبني فيها الفضول الصحفي لكي أتسلل إلى «عالم ما وراء» منظومة عبدالعزيز الروّاس الفكرية، لأزيل القشرة الصلدة التي يضعها على قناعته بألّا يتحدث عمّا يفعله إعلاميًا.. وكم مرة انثالت قِطع وومضات وسرديات من هذه الذاكرة التي تختزن وتختزل.. وتفيض وتغيض.. وكم وشيت إلّا قليلًا إلى الفضاء الإعلامي الخارجي عن بعض جواهره ومكنوناته.. أسرار مُغلفة بالخبرة، صندوق أسود عليه بصمة الأيام، وتوقيع التجربة، في السياسة والثقافة والصحافة والإعلام والدين والمجتمع والنَّاس والحياة بحلوها ومرها، بانتصاراتها وانكساراتها، بأشواقها وعذاباتها.. بخطاها وخطواتها، ومن كُتبت عليه خطى مشاها.

(6)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

نعم.. إن للمحكمة الكونية منظورها الآخر..

من المفارقات أنَّه كان من المفترض أن أزور مسقط بعد شهر رمضان الماضي، أي قبل حوالي ثلاثة أشهر، لكن ثمّة أسباب واهية أوهن من خيوط العنكبوت كانت تحول دون الزيارة، لماذا؟ لست أدري ولا أعلم.. لكني بعد ذلك علمت لماذا، حين احتواني مكان جلساتنا في رحاب (دارة عبدالعزيز الرواس) كما كان يؤثر هذا المسمى كتابةً على باب منزله بـ«رابية» في «القرم» وللأماكن عبقريتها. ثم علمت الأكثر، حين رافقته إلى مستشفى الحياة لمُمارسة العلاج الطبيعي، ثم المستشفى السلطاني التي آثر شقيقه د. أنور الرواس، أن يُسرع إليها، تأمينًا لصحته من أية تداعيات محتملة، فلنأخذ بالأسباب، والأمر بيد رب الأسباب، والحرص واجب.

لكن (الآه) لم تصدر منه! فهو الرجل الذي اتسم بالصبر والجلد، كما أكد لي ذلك أيضًا د.أنور الرواس، وهو نعم الشقيق والرفيق والصديق، خاصة في المرحلة الأخيرة، داخليًا وخارجيًا.

بلى.. لله الحمد والمنة.

لم يتعب صاحب النفس المُطمئنة.. لم يتوجع.. ولم يتألم، ولم يطل ألمه... ولم يمكث في المستشفى إلّا بضعة أيام، كان مستأنسًا بعزوة أبنائه، وجماليات أشقائه، وحيوية أحفاده.

لم تغب ابتسامته، وإشارة إصبعه إلى السماء، التي استوقفتي بدلالتها الخفية، واسترعت انتباه د. أنور أيضًا.. إلّا قليلًا!

(7)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

في الساعات الأخيرة، وكعادتي أختمُ زيارتي بالسلام عليه مثلما أبدأه بالسلام عليه، منذ غادرت مسقط جغرافيًا قبل سنوات، بعد حياة حيَّة مُتواصلة مع مطلع العام 1984... ذهبتُ لأودِّعه. سلّم علىَّ بكلتا يديه وضغط مُطوَّلًا، وفي عينيه بريق قوي لم أعهده... وصلتني الرسالة لحظتها، قبل أن يرتد إليَّ طرفي، فتَلَوْتُ في قلبي الآيتين العظيمتين في نهاية سورة المائدة التي كان يحبها حبًا جمَّا: "قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ * لِلَّه مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا فِيهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرُۢ".

وبكل كياني تلوتُ خاشعًا ومودعًا وداعيًا ومتضرعًا: "يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ. ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ. فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي . وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي".. وبعد يومين جاءني النبأ الحزين.

(8)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

نعم.. قل هو نبأ حزين... فالفراق مؤلم.. والفقد الأبدي أشد إيلامًا.. لا سيما فراق وفَقْد عزيز مثل عبدالعزيز الرواس.

(9)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

رحل أول الرجال الذين أوقفهم الخطاب العُماني في كُلِّيته على الإعلام كرجال يُعرفون بسيماهم من حيث قوة الانتماء والإيمان بحقيقة المجتمع الجديد بعد 1970؛ بل كان أطولهم عمرًا إعلاميًا وتقويمًا إعلاميًا أيضًا (23 عامًا متواصلة 1979- 2002) فحق أن نلقبه بـ«أبي الإعلام العُماني». وواصل رسالته في بُعدها الثقافي المتجاور مع البُعد الإعلامي كمستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية (2002- 2020).

وكمبدأ مُتأصِّل في التكوين العُماني، ألا وهو تسلسُل الأجيال، فقد أينعت ثمار الشجرة الإعلامية، وتواصلت قطوفها، فكان من بعده وزراء الإعلام: حمد بن محمد الراشدي (2001- 2012) ثم د. عبد المنعم بن منصور الحسني (2012- 2020)، ثم معالي الدكتور عبد الله بن ناصر الحراصي (منذ 2020)، وذلكم تأسيسًا على مُعطيات حقبة البداية؛ إذ كان وزير الإعلام غير مُتفرِّغ للإعلام، فكان عبدالله بن محمد الطائي وزيرًا للإعلام والشؤون الاجتماعية (1970- 1972)، وكان صاحب السُّمو السيد فهد بن محمود آل سعيد وزيرًا للإعلام والسياحة (1973- 1974)، ثم وزيرًا للإعلام والثقافة (1974- 1979)، وكان عبدالعزيز بن محمد الرواس (1979- 1982) وزيرًا للإعلام وشؤون الشباب، ثم تحمَّل منذ العام 1983 مسؤولية وزارة الإعلام وتفرَّغ لها كُليةً، ولكل مرحلة من هذه المراحل بصمتها وتوقيعها، وشواهدها ومشاهدها، وشهودها وأشهادها، بصورة أو بأخرى، والمنظومة الإعلامية مُستمرة، في ظِلال النهضة المُتجدِّدة.

(10)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

رحل الذي وَهَبَ عُمره لكي تتعمق الجذور الإعلامية في التربة العُمانية الطيبة، وهنا تأكيدي الدائم على أني لم أُقابل من يُنكر ذاته إنكارًا، بشخصه وشخصيته، مثل هذا الرجل صاحب النفس المُطمئنة الواثقة، مع أنَّ وزراء الإعلام- كما نعرف نحن معشر الإعلاميين- عادةً لا يعيشون الطُمأنينة إلّا قليلًا، بسبب نوعية العمل الإعلامي الذي يتطلب من صاحبه أن يسير على حد السيف؛ حيث اليقظة التي لا تعترف بالغفلة.

كان عبدالعزيز الرواس أحد كبار الأشهاد على المجتمع، وعلى منطقة الخليج، وعلى تحولات إقليمية كبرى، وشهادته شهادة حضورية، وعلم حضوري بموضع الشهادة، عن طريق السمع والبصر، ولديه أيضًا شهادة معرفة وخبرة مكتسبة.

(11)

سلامٌ عليك يا «عبدالعزيز الرواس»..

رحل صاحب السردية المُتنوعة والمُتشابكة، وبنورها ونارها قاد سفينة الإعلام منذ حقبة عِقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وهي حقبة كانت أمواجها صاخبة بشكل غير مسبوق، والتوترات لا حدود لها، والتحديات الإقليمية هائلة، والأخطار المُحدقة بدول الخليج مُستعرة، والتنمُّر لتفتيت منطقة الشرق الأوسط يزداد ضراوةً،  ثلاث حروب (الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988) ثم (حرب الخليج الثانية 1990) ثم (حرب الخليج الثالثة 2003)، وصولًا إلى عقد الألفية الثالثة حتى استوت على شاطئ الهدوء الحذر إلّا قليلًا.. وفي خضم ذلك، كانت الرسالة الإعلامية العُمانية مُتوازِنة وصعبة التحقق، ومما ضاعف الصعوبة التزامن مع سقوط قوى عظمى وصعود أخرى تتحرش للهيمنة على العلاقات الدولية.

(12)

سلامٌ عليك يا عبدالعزيز الرواس...

وسلامٌ قولًا من ربٍ رحيمٍ.