"جبالنا مخازننا".. "متى يمكنني العودة إلى بيتي يا نصرالله؟"

 

د. هيثم مزاحم **

 

"يا نصر الله، قل لي: متى يمكنني العودة إلى بيتي؟". هذا الكلام ليس صادرًا عن مواطن لبناني نزح من منزله في البلدات الجنوبية المحاذية لفلسطين المحتلة، إنما هو عنوان مقالة لكاتب إسرائيلي مُقيم في إحدى مستوطنات الشمال المحاذية للحدود مع لبنان، هو مناحيم هوروفيتس وقد نشر مقالته في موقع قناة "N12" الإسرائيلية.  

قال هوروفيتس إنه "لطالما تركت زيارات القادة أو كبار الضباط الإسرائيليين إلى البلدات الإسرائيلية المتاخمة للحدود الشمالية للكيان مع لبنان انطباعًا بصريًا جيدًا، وقد كان رؤساء الحكومات، ووزراء الدفاع، ورؤساء هيئة الأركان، وقادة الألوية يعلمون هذه الحقيقة، ولطالما اهتم هؤلاء بدعوة كاميرات الصحافة إلى جولاتهم المنظمة، فوجود جبال الجليل الدراماتيكي في خلفية الصور، والقرى والبلدات الواقعة وراء الحدود، وخط النقاط العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي، وسهل الحولة الممتد من الشرق، يُعد ديكورًا مثاليًا في الخلفية، لصورة يرغب فيها القادة والزعماء".

وأشار إلى أن تصريحات هؤلاء القادة الإسرائيليين شديدة التشابه وهي من قبيل: "سنسحق العدو"، و"سنهزم حزب الله"، و"سنقضي على التهديدات الآتية من الشمال". وأوضح أنها "صرخات المعركة نفسها، والتبجح ذاته، والوعود عينها.. لطالما تبجح هؤلاء في جولاتهم قائلين إن علينا فقط أن نقرر إذا ما أردنا "إعادة لبنان إلى العصر الحجري".

وأضاف الكاتب الإسرائيلي: "ها نحن نعيش حربًا مع حزب الله على امتداد 10 أشهر، وعليّ الاعتراف بأنها حرب غريبة إلى حد ما، وهي حرب بدت، حتى هذا الأسبوع، كما لو كانت معركة بين ملاكمَين، يضرب كل منهما الآخر بدوره، لكنّ كلًا منهما يحترس من توجيه الضربة القاضية إلى خصمه، وكما لو كان على كل منهما أن يظل واقفًا على قدميه وأن يواصل إطلاق التهديدات. على مدار 10 أشهر، خلت منازل عشرات الآلاف من المواطنين في الشمال، وتحول قطاع كامل من البلد، عمليًا، إلى منطقة عسكرية مغلقة، ودولة إسرائيل، بجميع قدراتها العسكرية والاستخبارية، تلاقي مصاعب جمة في مواجهة حزب الله. ويمكن للمرء أن يجادل بشأن نجاح إسرائيل في حربها في مواجهة "حماس"، لكن أكثر الناس تشاؤمًا سيعترفون بأن الآلة الحربية لحزب الله لا يوجد تشابه بينها وبين الآلة التي خططت ونفذت هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. انظروا إلى ما حققناه في القطاع، انظروا إلى عدد القتلى هناك، والأنفاق المدمرة، والأسلحة التي تبددت، والشحنات التي تم تدميرها، والقادة الذين تمت تصفيتهم، والأرض التي تم الاستيلاء عليها، وعلى الرغم من هذا، فإنه لا يزال بعضنا يجادل في حقيقة أن هذا كله قد شل "حماس" تقريبًا، لكن حينما نتحدث عن حزب الله، فإن علينا هنا أن نعترف بأنه على الرغم من مقتل عدة مئات من صفوف ذلك التنظيم، وعدد المسؤولين الذين تمت تصفيتهم، فإنه ما من أحد هنا يصدق ولو للحظة أن منظمة نصر الله، حتى بعد كل ما حدث مؤخرًا، باتت على شفا التفكك".

ورأى الكاتب أن "من يتحدث الآن عن سيناريو لإنهاء الحرب، ليس عليه أن ينظر إلى غزة أو تل أبيب أو واشنطن، فمن يرغب بذلك، عليه أن يشخص ببصره إلى بيروت. وقد قال حسن نصر الله، أكبر أعداء إسرائيل في القرن الواحد والعشرين في بداية الحرب، إنه سيواصل توجيه الضربات إلينا إلى أن يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، وفرض علينا القواعد عمليًا، وهو الآن يلتزمها أيضًا. إن عشرات الآلاف من البشر المهجرين من الجليلين الأعلى والغربي يعرفون جيدًا كيف ستتم الأمور في هذه المرة أيضًا؛ ليس عن طريق إعلان احتفالي بالنصر تطلقه دوائر صنع القرار السياسي في تل أبيب، ولا إعلان صادر عن الأمم المتحدة، ولا عبر الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام، إنما سنعود إلى منازلنا في الشمال فقط بعد أن يعلن نصر الله أن هذه الجولة قد انتهت بالنسبة إليه".

كلام هوروفيتس، وهو من سكان مستوطنة كريات شمونة المحاذية للحدود مع لبنان، يلخّص المأزق الذي يواجهه الكيان الصهيوني والمستوطنين من سكان شمال فلسطين المحتلة. ويأتي كلامه بعد أسبوعين من تهديد حزب الله بالرد على اغتيال إسرائيل قائده العسكري فؤاد شكر (السيد محسن) في غارة على مبنى سكني في بيروت، واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في غارة على مقر إقامته في طهران.

وعلى الرغم من تأخر الرد على الاغتيالين والذي ردّه البعض لأسباب سياسية وردّه البعض الآخر لأسباب عسكرية. إذ أرادت طهران بناءً على اتصالات عربية وغربية بها منح فرصة لمفاوضات الدوحة لوقف إطلاق النار في غزة فيما هناك خشية لدى إيران ومحور المقاومة أن يكون نتنياهو يستدرجهم إلى فخ حرب شاملة تتورط فيها الولايات المتحدة في مسعى لتدمير المنشآت النووية والعسكرية والنفطية والصناعية الإيرانية، فضلًا عن تدمير منشآت لبنان ومحاولة القضاء على بنى حزب الله العسكرية.

لكن الرد ليس مرتبطًا بتوقيت نتنياهو ولا ينبغي أن يكون فوريًا إنما يرتبط بمصلحة محور المقاومة وتوقيته وظروفه السياسية ومعطياته العسكرية والأمنية التي تحدد توقيت الرد وطبيعته ومكانه ومستوى الهدف أو الأهداف الإسرائيلية، وسواء يكون الرد عسكريًا أو أمنيًا.

فالثأر للشهداء يشفي غليل المؤمنين لكنه ليس هدفًا بحد ذاته وإنما الهدف الأسمى هو تحقيق أهداف المقاومة، وأهمها حفظ كيانات محور المقاومة وبناها السياسية والعسكرية والصناعية وقياداتها وكوادرها، فضلًا عن دولها وشعوبها منشآتها واقتصاداتها. لكن النتقام مطلوب لحفظ الردع ولجم العدو الإسرائيلي عن تكرار اغتيالاته لقيادات المقاومة من جهة، أو اعتداءاته على العواصم والمدن والمباني السكنية والمدنيين من جهة أخرى.

في هذا السياق، بث الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية (حزب الله ) في لبنان فيديو بعنوان "جبالنا مخازننا" عرض فيه منشآة اسمها "عماد 4" كان استثنائيًا من حيث مضمونه وتوقيت بثه. فالفيديو يعرض لمنشأة عسكرية واقعة في الجبال، حيث تظهر داخلها الآليات العسكرية والصواريخ الدقيقة التي تتحرك بشكل مريح وكأنها مدينة تحت الأرض. المشاهد تُشير الى أكثر من دلالة أراد حزب الله لفت أنظار الإسرائيليين إليها:

- السرية العالية التي تُحيط بمكان وجود هذه القدرات الصاروخية، فالمنشأة الموجودة في عمق الجبال التي توفّر الحماية اللازمة حيال أي استهدافات مُعادية لها في حال كُشفت.

- حصانة المكان تتيح تحييد هذه القدرات العسكرية عن أيّة ضربات استباقية من العدو الإسرائيلي ويضمنان إمكانية استخدامها في أيّ معركة لحزب الله، كما تؤكد أن أيّ ضربة استباقية للمقاومة ستكون فاشلة، وسيكون لدى المقامين دائمًا القدرة للردّ القاسي والمدمّر، وهي قدرة "الضربة الثانية" كما تُسمى في العلوم الإستراتيجية.

- جاء في الفيديو أن المنشأة تحمل الرقم "4"، ممّا يعني بأنها واحدة من سلسلة منشآت على المنوال نفس حيث يُظهر المقطع مدى الراحة العملياتية التي يعمل فيها المقاومون تحت الأرض في المنشأة التي هي بحجم مدينة، وليس معلومًا أين تبدأ وأين تنتهي وبماذا تتصل. وأشارت مصادر المقاومة إلى أن المنشأة مجهزة بمستشفى ميداني وجميع الاحتياجات للصمود لنحو سنة كاملة.

وبذلك تعلن المقاومة الإسلامية أن قدراتها ولا سيما الصاروخية في أتمّ الجهوزية للدفاع عن لبنان، وأنها لا تخشى الذهاب إلى الحرب بل هي مستعدّة لها إذا ما قرر الكيان الذهاب ‏بعيدًا في التصعيد والعدوان.

وقد تزامن عرض هذا الشريط المصور مع المفاوضات التي كانت تجري في الدوحة، وعقب زيارة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت. وكأن الرسالة التي يحملها الفيديو فضلًا عن ردع العدو، هي أنه حتى لو تأخر الرد على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال القائد فؤاد شكر وقتل مدنيين لاعتبارات ميدانية أو سياسية، فإن الرد آتٍ حتمًا. والتأخر في الرد هو جزء من الرد كما عبّر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أي جعل فترة الانتظار حرب أعصاب تجعل الكيان الصهيوني في حالة خوف واستنفار تؤثر على اقتصاده ومعنويات شعبه وجيشه. فالمبادرة حاليًا في يد المقاومة التي تريد منع العدو من وضع قواعد الاشتباك بحسب مصلحته.

وإن كانت إسرائيل دأبت على تهديد لبنان بإعادته مائة سنة إلى الوراء أو إلى العصر الحجري في حال نشوب حرب مفتوحة، فإن المقاومة حينها ستعيد المستوطنين الصهاينة إلى أوروبا الشرقية.

 

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية- لبنان