ماجد المرهون
قد يبدو العنوان حاويًا للكثير من المعاني والمفاهيم وحتى التوقعات والتخمينات، وربما يذهب بخيالنا إلى الرمزية باعتبار مُكونه الرقمي مع أنَّ الدلالات الرقمية أشد وثاقةً وأصدق بُرهانًا، كما قد ينصرف ذهن أحدنا إلى فئةِ مركبةٍ أو جهاز حيث اعتدنا على تصنيفات ذات أرقامٍ ترافق الأسماء، فهل يكون الإنسان في بعض الحالات مجرد رقم؟! ولا بأس في الذهاب إلى أبعد من ذلك مع قصة الثلاثمائة جندي عندما خرجوا لملاقاة الآلاف من جحافل الفُرس فلقوا حتفهم جميعًا بما فيهم الملك ليونيداس دفاعًا عن مدينتهم إسبرطة، وماصحب هذه الواقعة لاحقًا من مُدخلات لاتخلو من الخرافة حتى أنها أدرجت ضمن الأساطير اليونانية مع أن لها أصل في كُتب التاريخ، ولكن واقعها الحقيقي لايُطرب مُخيلة المتلقي بقدر مايفعله سردها الخيالي.
وهكذا هي بعض العقول المُتسائلة عما يحدث في غزة بعد 300 يوم ونيِّف من صب الاحتلال الصهيوني والأمريكي صنوف العذاب والتنكيل والتدمير، فما هو ذنب الأبرياء صغارًا وكبارًا من الذين يُقتلون صبحًا ومساء؟! وهل هم مجرد أرقام من غبار بشري في صفحةٍ تاريخيةٍ ستطوى في يومٍ من الأيام على رفوف إحدى المكتبات؟! وكيف يُمكنهم ويمكننا تحمل وتقبل المناظر الواقعية الأليمةِ والموجعة؟! وما هذا القهر والاضطهاد وكيف نستطيع العيش مع هذا الخزي والعار؟! بالطبع يقف العقل حائرًا وعاجزًا إزاء هذه الأسئلة ولكنه يُريد إجابة وهكذا هي طبيعته، فيلجأ إلى أقربها وأبسطها وهي إلقاء اللوم على المتسبب، وسريعًا تُفعل آلة التضليل بأنَّ المتسبب في هذه الحالة هي المقاومة باعتبارها بدأت حملةً نوعيةً وهو تصرفٍ لا يروق للمحتل ويجب وصفه في الدعاية الغربية المساندة بأنه اعتداء، بينما الاحتلال الصهيوني يعتبر دعوة سلامٍ وعدلٍ مع أكثر الجيوش أخلاقية في العالم...!
بعد تلك الإجابة الساذجة ستُستثار أسئلة أخرى وهي لا تتوقف، فلماذا فعلت المقاومة ذلك؟! ولماذا تحاول احتلال الكيان الوادع وتباغتهم فجأة في 7 أكتوبر 2023؟! أما كان حريا بالمقاومة إخطارهم قبلها بفترة كافية حتى يتسنى لهم الاستعداد؟! إن أبسط ما قد يروج له من إجابات لإشباع عقول المضَلَّلين هو تصفية حسابات أو عمالة على حساب الأرض والمُكتسبات والعِرض والمُمتلكات والإنسان والحيوان والنبات، ولا زلنا ندور في فلك النطاق الحسي الواقعي المُدرك، لأن العقل لا يريد قبول شيءٍ آخر عدا ذلك بحسب المقاييس الإنسانية الدنيوية والمعايير الطبيعية، فلا تحدثني عن الغيبيات وخوارق العادات في الوقت الراهن لأننا في خضَّم القتل المسعور والتدمير المجنون ونشهده يوميًا، مع العلم أن تلك الماورائيات والعجائب الأقرب للمعاجز ستكون مقبولة في يومٍ ما بعد أن ينتهي هذا الأمر كُله وستُذكر ضمن القصص الأسطورية في كتب التاريخ، أما الآن نريد حديثًا بقوانين المنطق المقبولة وطبعًا هنا يأتي دور الإيمان وتترسخ حتميته ولاعزاء لمن ألحد عقله بما تراه عيناه.
يتجلى يقين التضحيةِ عندما يضع الإنسان عدد السنوات التي سيحياها أيًا كان نوعها مقابل حتمية الموت؛ سواءً عاش عمره مُنعمًا في رغدٍ ورخاء أو مُعذبًا في كمدٍ وشقاء، تحت طائلة الاحتلال ونير الأغلال أو محاولة التحرر والاستقلال وإن للحرية ثمنًا باهظًا لمن قرر دفعه، وقد قررت المقاومة تجشُم عسرته المقرونة بالنظر لليوم التالي وهو عدد السنين التي سيحياها المُقاوم وليس اليوم بعدد 24 ساعة، هي رؤية لما بعد حياته فهو ميت وراحل وبما أن الموت الذي يفر منه الجميع أمر واقع فإنِّه أكثر طمأنينةً عندما يكون في سبيل الله ونيل الشهادة هو العزاء الوحيد لمفارقة الدنيا بعد الدفاع المشرف ولعل العيش في ذُل واستعباد المُحتل شديد السوء مقارنةً بالنصر أو الشهادة، ولن نُطيل كثيرًا في المقاربات الإيمانية حيث لا تروق لمريدي الحلول السريعة والعاجلة وطالبي التحليلات العقلية والإجابات المنطقية ولمن تعصف بعواطفه مشاعر الضعف والخور في مواجهة الاحتلال وتتقمصه مرارة التضحية.
لا مهرب من الموت ولا مفَّر منه فصًا ونصًا، وكُل أهل فلسطين يلاحقهم الموت كل ساعةٍ مُنذ مائة عام وهم لا محالة ميتون كما نحن حتم أنوفنا وغيرنا ومن سيأتي بعدنا، فهل يرضخون للموت تحت وطأة الضيم والشطط المفروض عليهم عيانًا بالمُقل وبيانًا بالعمل؟! بالطبع لا ولن يبقون إلى الأبد في مكابدة الكيانات المُختلة وألاعيب مخابيل الساسة وسينفرون في يومٍ معلومٍ ضدهم وتخرج منهم طائفةً موقنة بضرورة التحرر، فهل جاءت المقاومة من خارج فلسطين كما جاءت الجيوش الصليبية الغازية والصهيونية المحتلة من كل بقاع العالم وهي لم تختبر عُشر ما اختبره الجد الراحل والابن الشيخ والحفيد الكهل والطفل الفلسطيني الذي بات اليوم عنصر أمل المقاومة؟! بالطبع لا، لأن كل إنسان فلسطيني تتلبسه روح المقاومة التي باعت شظف دنياها بترف آخرتها مقابل تحرير وطنها، وكل ذلك بهدف ما بعد اليوم لليوم التالي وضمان الحرية الحقيقية للأجيال القادمة بعد أن لاقت الأجيال السابقة ما لاقته من صنوف المهانة والكذب والنفاق على الطاولات المستديرة.
"إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن" وإن النفس لتخشع وإن العقل ليُفتن وإن الثورة ضد الظلم تحتاج للتضحيات وهي قاسية مريرة، وكل الشعوب التي فعلت ذلك ضد الاحتلال تحملت بذل النفيس من أجسادها ودمائها وأرواحها ودموعها؛ لأنها وبكُل بساطةٍ نفضت بساط المحتل الجاثم على صدرها ورفضت مصير بقائه متحكمًا بقدرِها، لأنها بلغت مبلغ اليقين بوجوب التضحية واستأنست المنطق البعيد غير المُدرك لليوم التالي حرصًا على الأجيال القادمة إذا ما أرادت البقاء والأمثلة على ذلك كثيرةٍ وكلها ناجحة، وهذا ما تفعله المقاومة الفلسطينية اليوم مع أقذر جيوش العالم؛ إذ بات الحل الأخير هو شريعة الغاب والبقاء للأصلح.