قراءة الحدث

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

 

بعد اغتيال إسماعيل هنية واستشهاده، يبدو أنَّ حرب الطوفان أخذت مسارًا مختلفًا عمّا كانت عليه، وكأنَّ ما سبق هي المرحلة التمهيدية للحدث الأعظم، الحدث الذي فجّر القنبلة الموقوتة بتنصيب يحيى السنوار قائدًا للمكتب السياسي لحركة حماس، الحدث الذي أسرع بظهور جدية غير مُعتادة على طاولة المفاوضات، "الآن الآن وليس غدًا" أمريكا وإسرائيل وأذنابهما وجميع عبيدهما والأحزاب معًا جادّون للتفاوض، وفي هذا الوقت الذي أدركوا فيه جميعًا أن نتنياهو كان مُخطئًا في قتل الأطفال والصحفيين والمدنيين، يُقابل جميع ذلك بمذبحة الفجر لتسجل في سجل الصهاينة بحرًا متجمدًا آخر من الإجرام يركن إلى مفاوضات السلام العالقة.

لكن يبدو أنَّ السنوار يُدرك ما حدث وما يحدث وما سيحدث ويركز اهتمامه وحده في صناعة نصر محتّم يرى فجره قادمًا لا محالة، وهكذا بتنا كشعوب سئمت الذل وتسممت من شرب ألاعيب المفاوضات والسلام الرمادي الفجر ذاته ونترقبه.

"قرّبا مربط النعامة منّي"

لم تشأ إيران الدخول المُباشر في حرب حماس مع الكيان رغم مساندتها ووقوفها معها، ولكن اختلف الأمر بعد استشهاد إسماعيل هنية في عقر دارها، فرفعت الراية الحمراء وتعهدت بأن ردها سيكون قاسيًا وفريدًا وغير مُتوقع، وبدأ التكتيك الإيراني بإشعال الحرب النفسية في صفوف الكيان العسكري والمدني على حد سواء، ولسان حالها يقول: "قرِّبا مربط النعامة مِنِّي" كلسان حال الحارث بن عباد قبل ضربته القاضية للزير سالم، حينما ثأر لمقتل ابنه بعد أن كان واقفًا مدّة أربعين عامًا على الحياد في حرب "بكر وتغلب"؛ فالحرب النفسية الإيرانية حتى الآن زادت من هشاشة كيانهم اللعين وزاد من سخطهم على حكومتهم المُتخبطة.

وعلى هامش انتظار الضربة الإيرانية يُثار الجدل كالجدل ذاته الذي أثير بين قصيدتي النّعامة للحارث ابن عباد وقصيدة المُشهّر للزير سالم اللتين كانتا بمثابة الحرب النفسية في الوقت السابق للضربة القاضية في حرب تغلب وبكر، وما نراه الآن من المشهد الإعلامي والذباب الإلكتروني واضطراب الآراء وزرع الفتن ليس بغريب عن جدلية قصيدتي النعامة والمشهر ولكن لكل زمن أدواته.

بعد تلك الجدلية كانت ضربة الحارث قاضية أوقفت الحرب بكفّ سيف الزير الجائر على البكريين أربعين عامًا،فهل ستقوم إيران بالدور ذاته وتكون لها اليد المباشرة في قطع دابر الاحتلال والمشهد الدامي منذ أكثر من نصف قرن؟ هذا ما ستحدده الأحداث القادمة.

في ملعب السنوار

كانت الكرة منذ بداية الحرب في ملعب السنوار المطارد منذ بداية الحرب والمصنف على أنه مجرم حرب؛ ولكن ما حدث الآن أن الملعب كاملا صار في قبضة يد السنوار، لا أستطيع التكهن بما هو قادم؛ لكني أشعر أن قرار حماس بتنصيب السنوار وإجماعهم عليه  كسر القاعدة بانتقال رئاسة المكتب من عتبات السياسة والمفاوضات والدبلوماسية والمساعي والوعود إلى الميدان مباشرة؛ فحينما يُصرح الناطق الرسمي للحركة بأن اختيار السنوار قائدًا للحركة جاء عن اقتناع مدروس وتوجد جاهزية مطلقة من الكتائب بتنفيد قرارات السنوار؛ فهذا ما أحدث خللًا في توازن قوى الاحتلال وجعل من نتنياهو يتوسل للوصول إلى مفاوضات، المفاوضات التي باتت الآن لا تعني للسنوار شيئًا كما يبدو من المشهد، المفاوضات التي كان السنوار منذ بداية الحرب وحده واضع شروطها وقراراتها والمتحكم في نجاحها.

لقد حلّت لغة القوة أخيرًا في هذا الوقت بالذات في طرف المقاومة بدلًا من لغة السياسة والدبلوماسية، وهذا ما جعل المفاوضات السريعة لوقف إطلاق النار تبدو غبية ومضحكة ومكشوفة، ويبدو أنَّ الجميع بات يخشى اللعب في ملعب السنوار.

برأيي يصعب اللعب مع رجل يقول عن نفسه: "إنه يحب دائمًا يحبّ الخروج عن السطر" يتحدّث قليلًا وعندما يتحدّث يتحدّث بأعلى صوته! لا يحبّ الظهور أمام الكاميرات ولكن تظهر أفعاله وتُحدِث الخلل في توازن القوى!

رجلٌ يقول إنّ أهل غزة "لديهم من المخزون الثوري ما يُمكّنهم من إيقاف كلّ المؤامرات والمفاوضات ويوقف كل المتآمرين وأنّه لا يوجد من يمكنه أن يمارس علينا الضغط ولدينا من الاستعداد للتضحية والفداء ما لا يمكن أن يتصوره أحد".

هو بالفعل خارج عن السطر وخروجه عن السطر أكثر ما ميزه وصنع منه قائدًا لا يعمل إلاّ للنصر.

كِشْ عار

إنّ المشهد الواضح في لعبة السنوار يمكن اختزاله في كلمتين "كِش عار"؛ فقد آن الأوان أن يُغسل العار الذي ألحقته الهزائم والمعاهدات المدمرة والتنازلات والمؤامرات الخائنة سرًّا وعلنًا بالفلسطينيين والانبطاح السياسي منذ أكثر من نصف قرن، آن الأوان ليكفّ مصاصو الدماء عن مص دم الفلسطينيين؛ فقد رأينا وقوف الشعب المخذول الأعزل صامدًا أمام فوهات المدافع وتحت مطر الصواريخ وفي مهب ريح الخيانة ليُدفن في ترابه غاسلًا عار أمّة بأكملها بدمه فداءً للشرف والذود عن المقدسات وإثباتًا لاستحقاقه الوجودي.

تقول قراءة المشهد أو الحدث- إن صحّ التعبير- "لقد فعلها السنوار"، لكنه يقول في مقطعٍ ما "إن السابع من أكتوبر لم يكن سوى البروڤة" والحدث الأعظم قادم، نحن حقًا نشعر أننا أمام منعطف تاريخي بإمكانه إعادة الكرامة إلى نصابها ويغسل العار؛ خاصة بعد المخطط الآثم لحصد رؤوس القادة.