د. هيثم مزاحم **
يتناول المؤرخ البريطاني من أصل إسرائيلي إيلان بابيه في القسم الثاني من كتابه "فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة"، المعنون بـ"اللحظة ما بعد الصهيونية في إسرائيل"، سِير أبرز مُنتقدي الصهيونية اليهود في إسرائيل، الذين أثّروا بشكل أو بآخر على حركة ما بعد الصهيونية خلال تسعينات القرن العشرين. يقول بابيه إنَّ النقد في حركة ما بعد الصهيونية في ذلك كان استمرارًا للعمل والتحرّك الذي أقدم عليه بشجاعة بعض الأفراد الذين يستحقّون الاحترام، من أكاديميين وصحافيين وغيرهم، والذين خاضوا في انتقاد المسلّمات الصهيونية كلٌ بمفرده، منطلقين من رؤيتهم الإنسانية الكونية للحياة".
ومن روّاد ما بعد الصهيونية هؤلاء، ماكسيم غيلان وإسرائيل شاحاك وبواز إيفرون ويشيعياهو ليبوفيتش وأكيفا أور ويوري أفنيري وإيلان هاليفي وأوري ديفيس.. وغيرهم.
كما تشكّلت حركات مناهضة للصهيونية من قِبل شخصيات إسرائيلية حزبية في ستينات القرن الماضي، والتي توسّعت بعد عدون عام 1967، مثل حركة "مصبن" (وتعني البوصلة)؛ والتي عرّف عنها مؤسسوها بأنها حركة ملتزمة بالثورة الاجتماعية (الاشتراكية) داخل إسرائيل وفلسطين.
وهي أعلنت في بياناتها الأولى، وبلا مواربة، أنها ترفض الصهيونية وتدعم مطالب الحركة الوطنية الفلسطينية.
ومن الروّاد الأكاديميين المعارضين للصهيونية، يذكر بابيه كلا من أوريل تال، أستاذ التاريخ اليهودي الحديث في جامعة تل أبيب، وسامي سموحة وشلومو سويرسكي، اللذان استخدما منهجية تصنيفية تخالف كلّ ما تمثّله الصهيونية ونتاجها الأكاديمي. فيما تصدّر الواجهة لاحقًا اثنان من علماء الاجتماع الإسرائيليين؛ حيث تركت أفكارهما أثرًا لا يمكن إنكاره على مستقبل تفكيك المشروع التاريخي الصهيوني السائد؛ وهذان المفكّران هما باروخ كيمرلينج ويوناثان شابيرا.
وعلى خطى شابيرا وكيمرلينج سار الباحث الإسرائيلي غيرشون شافير، والذي يتعارض بيانه للسمات الأساسية للصهيونية مع ما يذكره المؤرّخون الصهاينة من أمثال أنيتا شابيرا، وهي من الأسماء المعروفة في مجال علم التاريخ التي تمثّل وجهة نظر المؤسسة الرسمية الإسرائيلية.
ويرى بابيه أن لهؤلاء العلماء الروّاد الثلاثة، شابيرا وكيمرلينج وشافير، أثرًا عميقًا على الموجة الجديدة من حركة المراجعة التاريخية في إسرائيل.
ومن ثمّ يعرض بابيه النتائج التي توصلت إليها مجموعة من "المؤرّخين الجدد"، والذين انبروا لتحدّي السردية الصهيونية المتعلقة بأحداث نكبة عام 1948.
ومن أشهرهم في تلك المرحلة الصحافي سيمحا فلابان، الذي انضمّ الى حركة صهيونية يسارية تُدعى مابام (حزب العمّال الموحّد) بعد أن وصل إلى فلسطين عام 1930. لكنه انضمّ لاحقًا إلى منظمة "الهاغانا" وشارك في حرب 1948.
وقد حصل التغيّر الجوهري عند فلابان حين تقاعد في بداية ثمانينات القرن العشرين وذهب إلى جامعة هارفرد حيث التقى بوليد الخالدي، أحد أهم المؤرّخين الفلسطينيين وأحد الباحثين الذين كرّسوا حياتهم لتأريخ المأساة الفلسطينية منذ العام 1948. فقد اقتنع فلابان بفضل هذا الرجل بأن الرواية الإسرائيلية الرسمية التي ابتدعها بن غوريُن كانت محض تلفيق وهي تزعم أن العرب الفلسطينيين تركوا بيوتهم في فلسطين بمحض إرادتهم.
ووضع فلابان كتابًا بعنوان "ميلاد إسرائيل: الأساطير والحقائق"؛ وفيه فنّد تلك الأساطير بطريقة مقنعة وناجعة. وإحدى هذه الأساطير هي أن إسرائيل وافقت على قرارالتقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، ما يعني أنها رضيت بقيام دولة فلسطينية إلى جانب أخرى يهودية وعلى مساحة تزيد عن نصف مساحة فلسطين.
وهناك أسطورة أخرى عرض لها فلابان بالنقد، وتتعلق بأن الدول العربية كانت عازمة عام 1948 على تدمير الدولة اليهودية؛ والتي أكملتها أسطورة أن إسرائيل كانت قد مدّت يدها للسلام بعد الحرب، ولكنّ مبادرتها لقيت الرفض من قِبل الدول العربية والفلسطينيين.
ويتحدث بابيه كذلك المؤلّف عن المؤرّخ الإسرائيلي بيني مورس، الذي ناقش كتابات فلابان وبابيه نفسه وآفي شلايم، حيث وصفها بأنها تشكّل توجهًا جديدًا في التاريخ الإسرائيلي فيما يتعلق بالعام 1948.
يقول بابيه إن أفكاره التي عرضها في كتبه، وأفكار غيره من الباحثين والمؤرّخين الإسرائيليين، تؤكد على أهمية إعادة قراءة تاريخ عام 1948 أو"التاريخ الجديد" للحرب، والذي ترتّب عليه أثران مهمّان: أعطى شرعية للرواية التاريخية الفلسطينية من جهة؛ وقدّم فرصة لتطبيع الذاكرة الوطنية الجمعية من جهة أخرى.
بعد ذلك يعرض بابيه للنقاشات النظرية العميقة، والتي أطّرها تحت عنوان (ظهور الأكاديميا ما بعد الصهيونية 1990/2000)، وهي التي كانت مصدر إلهام للمفكّرين المعارضين للصهيونية، وخاصة علماء الاجتماع الذين توسعوا في تناولهم الكرونولوجي للمراحل الأولى من نشأة الصهيونية وصولًا إلى خمسينات القرن العشرين، ثم انتقلوا إلى موضوعات تتعلق باليهود المزراحيين و"فلسطينيي إسرائيل" اي فلسطينيو أراضي ١٩٤٨، وبحثوا قضايا تتعلق بالمرأة والنوع الاجتماعي واستغلال ذكرى الهولوكوست في إسرائيل.
وكانت هذه الزمرة من علماء الاجتماع مهتمّة بسبْر أثر السلطة، سواء كانت أيديولوجيا أو موقفًا سياسيًا أو هويّة ما، على إنتاج ما يُزعم أنه معرفة علمية وموضوعية.
حول ذكرى الهولوكوست، يُفرد المؤلّف فصلًا كاملًا للحديث عن كيفية استغلال إسرائيل لهذه المسألة في تبرير ظلمها واضطهادها المستمر للشعب الفلسطيني، وفي التسويق لفكرة إسرائيل نفسها.
ويكشف بابيه عن أنّ القيادة اليهودية قد أبدت تلكؤًا في بذل أقصى ما تستطيع لإنقاذ يهود أوروبا من المذابح التي كانت محدّقة بهم؛ والأدهى من ذلك أن بعض القيادات الصهيونية كانت قد تحالفت مع النازية؛ واستمرّ ذلك حتى انفضحت خطط النازيين لإبادة اليهود.
وقد أثبت مفكّرو حركة ما بعد الصهيونية ، من خلال وصف المعاملة السيّئة التي تلقّاها الناجون من الهولوكوست أنه جرى، وباسم أولئك الضحايا، الترويج لفكرة إسرائيل على أنها الحلّ الأمثل للمصيبة التي حلّت بيهود أوروبا في الحرب العالمية الثانية.
كما أعرب هؤلاء المفكّرون عن فزعهم ممّا ترتّب على عمليات استغلال ذكرى الهولوكوست من نشوء مجتمع عاجز عن فهم العِبرة الكونيّة ممّا جرى، ويعمد عوضًا عن ذلك إلى الانغلاق على نفسه في كيان قوموي توسعي عازم على ترهيب المنطقة بأسرها.
وينقل المؤلّف عن الباحثة إديث زرتال تحليلها لكيفية توظيف إسرائيل لذكرى الهولوكوست في طريقة النظر إلى الفلسطينيين داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي وأسلوب التعامل معهم.
فقد بيّنت زرتال كيف نشأت الحجج المعادية للفلسطينيين من خلال استغلال قصة الحاج أمين الحسيني، ذلك القائد الفلسطيني الذي تعرّض للنفي من فلسطين وارتكب "حماقة" حين امتدح هتلر وموسوليني سعيًا منه لتشكيل تحالف معهما ضد بريطانيا وسياساتها المنحازة للصهاينة.
كذلك استفادت النخبة السياسية والعسكرية في إسرائيل من الإحياء الممنهج لذكرى الهولوكوست في التأثير بالرأي العام لصالحها عند اتخاذ قرارات حسَّاسة تتعلق بالصراع مع العالم العربي أو دفع تهديد حقيقي أو مزعوم.
ولعلّ أهم نقد تعرّضت له فكرة إسرائيل، برأي بابيه، هو ما قدّمه المفكّرون المزراحيون، ومعظمهم كانوا علماء اجتماع أو ناشطين سياسيين. وكان هؤلاء اليهود قد هاجروا إلى إسرائيل من دول عربية وإسلامية في خمسينيات القرن العشرين، وشعروا بالتمييز ضدّهم من قِبل اليهود الأوروبيين، ممّا دفعهم إلى الانطلاق في رحلة إلى الماضي وشدّ عزيمتهم للوصول إلى السلطة.
لقد كانت فكرة إسرائيل في نظرهم فكرة أوروبية غربية وكولونيالية، وأدركوا أنهم ما لم يتحوّلوا هم أنفسهم إلى أوروبيين فلن يحظوا في إسرائيل إلاّ بدور هامشي.
بالمقابل ، رفض المفكّرون المزراحيون وصف حياة اليهود في الدول العربية، قبل مجيئهم إلى إسرائيل، بأنها بدائية كما يُزعم، وبيّنوا أن المدن التي كان يعيش فيها اليهود كانت تتفوّق كثيرًا من الناحية الثقافية على ما كان موجودًا في القرى اليهودية الصغيرة في أوروبا الشرقية.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية