عبدالله العليان
لا شك أنَّ ظاهرة الغلو والتكفير في الكثير من المجتمعات المعاصرة، تنتشر عبر التقنيات الحديثة، وهذا التطرف والغلو، تقوم به بعض الجماعات المُتطرفة التي تستغل بعض الشباب الذين لا يملكون معرفة عميقة بالحياة ولا نظرة فقهية واسعة لشمولية الإسلام ورؤيته تجاه الأحكام التي جاءت في القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
لذلك نحتاج دائمًا إلى بث الوعي والتثقيف، سواء في التعليم أو عبر وسائل الإعلام والمعرفة، وكذلك الوسائط الاجتماعية؛ فالفكر المتطرف ينمو على قلة المعرفة لدى الشباب، إذ يجري شحنهم بأفكار ضالة. والكثير من الباحثين والمهتمين كتبوا العديد من التحليلات والتوصيفات لظاهرة الغلو والتطرف والتكفير، ولا شك أنَّ لكل ظاهرة أسبابا سياسية أو دينية أو فكرية، أو أي أسباب أخرى دافعة للعنف والتطرف. ومن هذه الأسباب، ما تختزله النفس الإنسانية من ردات أفعال فكرية تجاه قضية ما من القضايا التي تبرز أو تواجه أفرادا أو جماعات، ويتم تطويعها إلى أفعال مادية تجاه آخرين، ربما يختلفون معهم في الفكر، وهذه قد لا يكون من يقوم بها لديه قناعة راسخة بها، وتربى عليها، لكنه موجه نحوها، بعد غسل دماغه بأفكار وقناعات من آخرين. ويحدث ذلك نتيجة لعدم وجود الحصانة الفكرية الطاردة أو الواعية بمخاطر وسلبيات الغلو في المجتمع.
لذلك.. أختلفُ مع بعض التحليلات والتوصيفات حول مسألة التعليم، أن المُتعلِّم أو المُثقَّف يرفض التطرف والغلو؛ لأنَّ التعليم مستويات وتخصصات مُتعددة، وليس كل التخصصات لديها معرفة كاملة بكل الظواهر الفكرية ومنطلقاتها وتأويلاتها.
التجارب برهنت على أنَّ ما يُسمى بـ"التنظيمات الجهادية (الإرهابية)"- ومنها تنظيمي القاعدة وداعش- لديها قيادات مُتعلمة تعليمًا عاليًا، وهذا لم يمنع هؤلاء من تبني أفكار متطرفة وتكفيرية. وهذه أسبابها عديدة، تحتاج إلى شرح موسع في مسألة هذا الفكر ومنطلقاته، ولذلك اختزلها بعض الكتاب في قضايا هامشية، لا تُسهم في مناقشة هذه الظاهرة المُركَّبة والمُتعدِّدة الأسباب والقضايا.
هذا يُذكرني بآراء سبق أن طرحها أحد الباحثين في مُناسبة سابقة، وهي تتكرر بنفس المفاهيم والرؤى، ولا تُناقِش الأسباب الحقيقية التي تُسهم في إنهائها والقضاء عليها. وتحدث أحد الباحثين عن ذلك بالقول: "إن ممارسات الإرهاب ليست إلا تعبيرًا عمليًا عن النزعة نحو التطرف، وليس التطرف بدوره إلّا واحدًا من بين ثلاث استجابات مُحتملة إزاء قوى الحداثة التي تجتاح الدول العربية والإسلامية. فعندما يواجه الأفراد الذين يحملون قيمًا اجتماعية ودينية وثقافية محافظة وتقليدية مظاهر الحداثة التي تتسم بالطابع الغربي بشكل عام، فإنهم يعانون من ضغوط جمّة تُوَلِّد لديهم أزمة هوية. ونتيجة لذلك، عندما تصطدم الحداثة مع القناعات الدينية، يلجأ الأصوليون إلى الاعتقاد بأنَّ التاريخ قد انحرف عن مساره الصحيح. ويجد هؤلاء أنفسهم عندئذ أمام ثلاث خيارات تتعلق بالكيفية التي ينبغي أن يتعاملوا بها مع العالم خارج مجتمعاتهم الأصولية الضيقة. ويقضي الخيار الأول ببساطة أن يتجنبوا التعامل مع العالم الخارجي الذي لا يشاركهم منطلقاتهم الأصولية والمُحافِظة والتقليدية. ويقضي الخيار الثاني بمحاولتهم التوفيق بين منطلقاتهم الأصولية والتقليدية من جهة والقوى الاجتماعية والثقافية الحديثة التي تحيط بهم في الواقع المعاش من جهة أخرى. ويتمثل الخيار الثالث في الانخراط في أنشطة عنف صريح من أجل مقاومة الحداثة والضغوط المصاحبة لها والتي يشعرون بأنها تلوث نقاء منطلقاتهم العقائدية الأصولية وقيهم الاجتماعية والثقافية التقليدية".
صحيحٌ أنَّ الغرب من خلال بعض مؤسسات صناعة القرار في الغرب استغل بعض الممارسات الخاطئة من بعض المسلمين وحاول- وما يزال- أن يُلصقها بدين الإسلام نفسه، وقال بعض هؤلاء صراحة إن الإرهاب أو التطرف يكمُن في تعاليم الإسلام، وينسبون ذلك لما حدث في 11 سبتمبر 2001، أنه ينبع من هذا الدين الذي يحث على الكراهية. لكن ما حدث في 11 سبتمبر سياسي بامتياز، ولا دخل له بالدين، ولا العنف ضد الآخر وهذا القول مجانب للحقيقة، فلم يسبق لدين من الأديان أن تعامل مع الآخر بإنصاف وانفتاح مثل الدين الإسلامي وباعتراف الكثير من الباحثين الغربيين أنفسهم، ولكن الأهم في تفادي هذه الظاهرة ليست المواجهة بالقوة وحدها قادرة على القضاء على هذا الفكر الخطير على شبابنا الذي قد ينقصه كما أشرنا آنفاً الفهم الصحيح لمبادئ الإسلام الصحيحة البعيدة عن الغلو والتطرف في الآراء والأفكار، التي تموج بها وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من التقنيات الحديثة.
لذلك من الأهمية بمكان ضرورة الغرس الطيب للنشء في المراحل الأولى في التعليم العام في المدرسة، وكذلك دور الأسرة في غرس هذه القيم، والتي تقوم على البعد والنفور عن الغلو والتطرف والتكفير والاستمساك بالهوية الوطنية، وقبول الاختلاف في المشتركات الدينية والإنسانية مع الآخرين، وتقوية الروابط بما وضعه ديننا الحنيف من قيم في هذا الجانب، وهذا ما يجب الاهتمام به مع ما نستقبله من وسائل التقنيات الحديثة، التي فيها ما هو مُفيد، وفيها ماهو خطير وسلبي على الجيل الجيل الجديد من أبنائنا خاصة.
وقد شدَّد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في بعض لقاءاته مع شيوخ وأعيان البلاد في بعض المحافظات، على أهمية ترسيخ القيم الوطنية العمانية في الأبناء والدين الحنيف، ونظرًا لما يشهده العالم من تغيرات في السلوكيات والمفاهيم وترسيخ البعض لمفاهيمهم، واستغلال مبادئ حقوق الإنسان، وغيرها من المبررات لفرض رؤى وبرامج وسلوكيات لا تتفق مع الثوابت والمبادئ السائدة، فقد أكد جلالته "أهمية العمل على ترسيخ المبادئ والقيم العُمانية الأصيلة المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف، وحث الأسر على الأخذ بأيدي أبنائها وتربيتهم التربية الصالحة."
الفكر لن يختفي بالقوة وحدها، ومن المهم أن تتقاسم المواجهة الفكرية مع المواجهة الأمنية، لتقليص ما تستفيد منه فكر التطرف والغلو والتكفير، فالأفكار لديهم مهما كانت تطرفها وغلوائها وحدتها، لا تستطيع الصمود فكريًا، لأن بضاعتهم الدينية محدودة ومجاة ، ولا تستقيم وحقائق الدين القويم، ولا يكفي- كما قلت آنفًا- أن تبقى المواجهة العسكرية والحلول الأمنية وهي قادرة عن إنهاء كل تحرك من نشاط تكفيري، لكن من المهم وهي تتقدم وبيدها الحل والربط في المعاجلة بعد ذلك في النظرة المستقبلية لأي تسربات فكرية متطرفة، ومن هنا لابد من استيعاب الشباب الذي غُرر بهم دون أن تكون لديهم الرؤية الثاقبة والواعية، للكثير من الآراء الفكرية المغالية والمتطرفة، التي تقدم لهم، فدمجهم في الحياة العامة له أثره المهمن وهذا هو السبيل لتقليص الأفكار المتطرفة والمغالية- إن وُجدت- والتحصصين والتوجيه السليم يسهم في وعي الشباب الذي لا يعرف فكر الكثير من التيارات التي تموج بها وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات الحديثة.