بيت البرندة.. هل يعود بيتًا للأشباح؟!

 

 

أنور الخنجري

alkhanjarianwar@gmail.com

كثيرٌ منَّا في سنواتنا المُبكرة أُسقينا جرعات هائلة من الخرافات حول الجن والعفاريت الذين يتخذون من المباني المهجورة سكنًا لهم ومرتعًا يعبثون فيها بما ليس لهم من سلطان، بعيدا عن أعين معشر الإنس الذين تشربت مخيلتهم بعالم مليء بالخوف والرهبة، عالم يضجُّ بالمخلوقات الفظيعة والشنيعة، وغدت تلك الأساطير الشعبية هي المصدر الفعَّال لتكوين وتغذية هذه الصورة النمطية في عقولنا الصغيرة آنذاك، وكان بيت البرندة أحد هذه المباني التي جانبها الشك عن اليقين، خاصة عندما يرخي الليل سدوله في تلك الأزقة الضيقة المحيطة بالبيت أو على الساحة الأمامية التي تطل عليها شرفة بيت البرندة من ناحية المدرسة السعيدية بمطرح، وبقيت ذكرى تلك المرحلة راسخة في أذهان البعض عن مدى صلابة هذا البيت واستمراره في لفظ كل من يتخذه سكناً أو مشروعاً أو حتى متحفاً.

تاريخيًّا.. يعود بناء هذا البيت إلى الوجيه والتاجر المسقطي البارز نصيب بن محمد بهادر الرئيسي الذي شرع في بنائه في أواخر القرن التاسع عشر كمقر ثانٍ لسكنه في مدينة مطرح بعد أن تزوج من إحدى بنات أشرافها وعرف البيت في تلك الفترة باسم "بيت نصيب"، رغم أنَّ نصيب نفسه لم يكن له نصيب من السكن في هذا البيت لأسباب نتحفظ على ذكرها. ويرجح أنَّ البيت قد بُني على مرحلتين أو أكثر، كانت الأولى في عام 1898، ثم أضيفت إليه أقسام أخرى بما فيها الواجهة الأمامية التي اكتمل بناؤها في عام 1350هـ الموافق 1931م، واحتوت على شرفة كبيرة مُطلة مباشرة على ساحل مدينة مطرح قبل بناء المدرسة السعيدية في عام 1959، وبذلك عُرف البيت منذ ذلك الحين باسم "بيت البرندة" نسبة إلى تلك الشرفة أو "البرندة" كما كان يطلق عليها محلياً وهي كلمة مُحرفة عن اللغة اللاتينية (Veranda).

هذا البيت الجميل ذو الجدران السميكة والعُرَص الضخمة الكبيرة المبنية من الخرسانة المسلحة والحديد والمطعمة بالخشب، كما عهدناه في فترة الستينيات، يتألف من قبو يحتوي على عنابر كانت تستخدم لتخزين مواد مختلفة ويضم الطابق الأرضي المطابخ وقاعات الاستقبال والطعام في حين كانت مساحة المعيشة في الطابق الأول بما تحويه من غرف النوم وملحقاتها وشرفة كبيرة رائعة الحسن والتهوية.

يعتقد أنَّ بيت البرندة قد استخدم بداية في العام 1904 من قبل البعثة الطبية الأمريكية عندما أنشأت الممرضة إليزابيث دي بري أول عيادة طبية في مطرح آنذاك، وفي العام 1909، عندما وصل الطبيب شارون طوماس الأب إلى عُمان، اتخذ البيت كمستوصف وسكن للطبيب وعائلته، وبعد وفاة الطبيب شارون في عام 1913، سكنه الطبيب بول هاريسون الذي خلّفه في عُمان في العام 1928، وأقام أيضاً في نفس البيت حتى عام 1933، وهو التاريخ الذي انتقل فيه المستوصف إلى مقره الجديد، والذي عرف لاحقاً لدى العامة بمستشفى طوماس. ومن بين الآخرين الذين تعاقبوا على السكن في بيت البرندة أحد التجار البارزين في مطرح وهو الحاج عبدالرضا سلطان محمد فاضل الذي استأجره مسكناً للعائلة لفترة من الزمن، وبعد افتتاح المدرسة السعيدية الأولى في مطرح في عام 1959، وكان مقرها آنذاك في بيت المنذري بحارة الشمال، استخدم بيت البرندة سكناً لبعض مدرسينا الأفاضل القادمين من فلسطين ولبنان وسوريا، ومع بداية عصر النهضة المباركة في عام 1970 اتخذه المجلس الثقافي البريطاني مقرًا له، كما شغلته لفترة وجيزة إحدى الشركات الاستشارية.

في عام 2004، آلت ملكية بيت البرندة للحكومة وعهد لبلدية مسقط التي عملت جاهدة بكل اقتدار على إعادة تأهيله وتجهيزه ليكون متحفاً حمل نفس اسم البيت وعُرف بـ"متحف بيت البرندة"، وحظي بافتتاح رسمي في تاريخ 16 ديسمبر 2006 من قبل صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم -حفظه الله ورعاه- حين كان وزيراً للتراث والثقافة.

هكذا هي السنون التي مرت على بيت البرندة، تارة يكون فيها مأهولاً وأخرى يكون مهجوراً؛ حيث استخدم المبنى بشكل متقطع في أكثر من شكل ومن قبل أكثر من جهة، وكلهم عموماً كانوا من الأجانب باستثناء الحاج عبدالرضا سلطان، ليستقر به القرار في نهاية المطاف وحتى وقت قريب كواحد من أهم المعالم التاريخية والسياحية في ولاية مطرح، وصرح يروي تاريخ عُمان ونشأتها منذ تكوينها الجيولوجي على مدى 750 مليون سنة مضت وحتى يومنا هذا، إضافة لكونه متحفاً حافلاً بالعديد من المقتنيات والمخطوطات والتحف الأثرية التي تحكي ماضي عمان منذ تكوينها ككيان سياسي ضاربة جذوره في عمق التاريخ وحتى فترة السبعينيات من القرن الماضي، كما عمل المتحف أيضًا على استضافة الفعاليات المختلفة والمعارض والمحاضرات المحلية والأنشطة التعليمية والثقافية؛ وبذلك أصبح بيت البرندة معلماً بارزاً على خارطة السياحة الثقافية العمانية و نقطة جذب كبيرة ومثالية لأعداد كبيرة من الزوار، خاصة أولئك السياح الأجانب القادمين من مختلف دول العالم.

كلمة أخيرة: مؤلم حقًّا أن نرى مثل هذه الصروح القيّمة الثمينة التي صرف من أجلها ملايين الريالات تقبع مُهملة هكذا دون بيان يبين الأسباب المقنعة التي من أجلها يستمر إغلاق متحف بيت البرندة كل هذه المدة. أليس من الأولى أن يبقى متحف بيت البرندة صرحاً حضارياً شامخاً في ولاية مطرح.

تعليق عبر الفيس بوك