بين الخليج والغرب.. المفاهيم مختلفة "شكلا وجوهرا"

 

 

د. عبدالله باحجاج

تبادر إلى تفكيري عنوان المقال أعلاه بعد أن تابعت حالة الخوف من احتمالية فوز اليمين المُتطرف في فرنسا بالجولة الثانية من انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية "البرلمان" بعد أن فاز بالجولة الأولى منها، ورغم هزيمته لصالح جبهة اليسار، وتراجعه ثالثا، فإن هذا لا يعني انتهاء خطره، وهو يستعد الآن للانتخابات الرئاسية في العام 2027، كما أنَّ خطر اليمين لا يزال قائماً على المدى القصير في معظم أنحاء القارة الأوروبية بعد انتصاراته في البرلمان الأوروبي، وتصاعد نفوذه أوروبيًّا وطموحاته الكبيرة في السلطة والحكم في ظل تراجع شعبية السلط الحاكمة في الغرب، وهذا ما يجعل خطره مستدامًا، واعتبار هزيمته في فرنسا مرحلة سياسية فقط ما لم تُعالج الأسباب التي تجعل الناخبين في أوروبا عامة وفرنسا خاصة التصويت له.

الحديث من خلال ما تقدَّم ينحصر في مسألتين أساسيتين تدعوان للتفكير السياسي فيهما؛ هما، أولا: الأسباب المنتجة للفكر السياسي المتطرف في أوروبا بقاعدة شعبية كبيرة ومتصاعدة، ثانيا: هذه الأسباب تنسخ في البيئات الخليجية المعاصرة؟ واستدعاء الهاجس الخليجي هنا بسبب تبني منظومة دول الخليج العربية الأفكار الأوروبية/الغربية نفسها التي تنتج الأفكار المناوئة للسلط الحاكمة المعتدلة؛ وبالتالي، فإنَّ هذا الربط تتوافر فيه كامل المشروعية التحليلية والبحثية التي يمكن أن تضعنا في استشراف مستقبلي لتداعيات هذه الأفكار داخل المنطقة الخليجية على خلفية مجموعة ألوان فكرية وأيديولوجية وسياسية متجذرة خليجيًّا قد تلتقي مع الآثار الناجمة عن تبني الأفكار الغربية الحديثة.

ولهذه الدواعي، ينبغي طرح التساؤل التالي: هل الآثار الناجمة عن تبني النموذج الغربي للدولة -النيوليبرالية- ستتحملها المجتمعات الخليجية؟ من حيث المبدأ لا يهمنا هنا أي مفهوم مهما كانت أيديولوجيته، الأهم هنا آثاره على المجتمعات، وهنا علينا معرفة آثاره داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، وهي تكمن -أي الآثار- في محاولة فرض أفكار ضد الإنسانية السوية؛ مثل: النسوية والمثلية...إلخ، وسحب الدعم الحكومي والتقشف والبطالة، والأعمال غير المستقرة والرواتب الضعيفة، وفي تنافسية السوق الحرة التي لا ترحم الفقير...إلخ.

وبين غمضة عين وانتباهها، يجد الآلاف من العمال فيها أنفسهم دون عمل.. فانتشر الفقر والأمراض الجسدية والعقلية كالقلق والاكتئاب وتزايدت حالات الانتحار، وبحسابات الأرقام فقد ارتفعت نسبة الفقر في ألمانيا إلى 14.3% من السكان، وفرنسا 14% عام 2022 وفق مكتب يورو ستات للإحصائيات التابع للمفوضية الأوروبية، وفي تقرير لصحيفة وول ستريت أن الأوروبيين يواجهون واقعًا اقتصاديًّا جديدا لم يشهدوه منذ عقود، وأن حياتهم التي كانوا يحسدون عليها قد فقدت بريقها بعد أن أصبحُوا أكثر فقرًا، وتلاشِي قوتهم الشرائية، ونقلاً عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أوضحت "وول ستريت جورنال" أن قيمة الأجور قد تراجعت بنسبة 3% في ألمانيا منذ عام 2019، وبنسبة 3.5% في إيطاليا وإسبانيا و6% في اليونان بسبب التضخم وضعف القوة الشرائية، وفي بروكسل -إحدى أغنى المدن في أوروبا- يقف المواطنون في طوابير من أجل الحصول بنصف الثمن على الطعام الذي توشك صلاحيته على الانتهاء.

وفي تحليل أنماط التصويت في الانتخابات البرلمانية البريطانية، سنجد أن وراء الفوز الساحق لحزب العمال البريطاني البعد الديموغرافي نفسه؛ وذلك من خلال التجاوب الإيجابي مع الأزمة السكانية التي يعيشها البريطانيون؛ فقد تعهَّد كير ستاريز في حملته الانتخابية ببناء 300 ألف منزل سنويًّا، كما وعد بتقديم ضمانات الرهن العقاري لأول مرة، وهذه الخطوات يقول عنها الخبراء أنها ستُسهم في رفع معنويات البريطانيين في امتلاك سكن بعد أن تلاشت للحضيض، لكن إلى مدى سيفي رئيس الوزراء البريطاني الجديد بوعوده في ظل الأزمة المالية، خاصة مع هذا أنه سيواجه إكراهات اجتماعية عندما يحاول تطبيق إصلاحاته المالية والاقتصادية المؤلمة بسبب الوضع المالي الصعب لبريطانيا وحجم دَيْنِها العام والمقلق.

فلا غرابة في ظل هذه المآلات أنْ نشهد صراعًا جديدًا للأفكار في أوروبا ويكون ساحتها الاجتماعية، ونتأمله أن يكون شبيها من حيث النتائج بما حدث في أوروبا في بداية القرن 19 عندما برزت الاشتراكية كرد فعل على الاختلالات الاجتماعية الناجمة عن توحش الرأسمالية، والآن تنتج الصيرورة الزمنية ردة فعل أخرى نتيجة غول النيوليبيرالية، ويستغلها اليمين المتطرف ومنافسه اليسار المتطرف بالضربات القاضية لكل منافسيه، مما جعلهما يستقطبان الملايين من ضحايا النيوليبرالية، بل وحتى الاستقطاب يطال أنصار اليمين المعتدل والكثير من اليسار، فالولاءات والانتماءات تتحوَّل إليهم كمنقذين تاريخيين؛ فالفقر بوابة الكفر، والكفر هنا بالمبادئ والانتماءات والولاءات، واتجاه بوصلتها نحو من يُؤمِّن اللقمة ويستر العورة ويضمن الحياة الكريمة.

 ومن سوء حظ اليمين المتطرف في فرنسا، أنَّ المهاجرين الذين يستهدف وجودهم، كانوا من أسباب فشله في الفوز بالجولة الثانية؛ لأنه تعهد في حالة فوزه بانتزاع الجنسية منهم وبالذات كل مسلم وإغلاق المساجد وتطهير العرق الفرنسي من المهاجرين تحت دعوى الحفاظ على الهوية الوطنية الفرنسية؛ ممن انحازوا إلى جبهة اليسار التي تجمع المتناقضات؛ لذلك لا يراهن على استمراريتها، والإسقاط الخليجي هنا يتمثل في وجود عمق يتجذر وينتشر في تطبيقات النيوليبيرالية، فما هي آثارها الاجتماعية الآن وعلى المدى المتوسط؟ وكذلك الانفتاح الخليجي على أيديولوجيات الوافدين إليه؛ مما قد يعتبر -على المدى المتوسط- بأنه يمس الهوية الوطنية الخليجية.

والمثير في هذه المقارنة أن البيئات الأوروبية قد بدأت تعلي من شأن رفض خيارات النيوليبرالية بسبب آثارها المؤلمة، فهل ستقبلها البيئات الخليجية بسهولة؟علما بأنَّ البيئات الخليجية عامة لا تزال حديثة العهد بمثل هذه التحولات والانفتاحات؛ وبالتالي تحتاج لمدى زمني لرؤية آثارها الاجتماعية، رغم أنَّ استشرافها مسبقا ممكن وبسهولة، وفي مقالنا السابق المعنون باسم "كيف تبدو التحولات الديموغرافية عام 2023؟"، لامسنا مستقبل التداعيات من المنظور الديموغرافي التاريخي، واستشرفنا فيه قضية الأقلية والأغلبية خلال هذا المدى الزمني المتوسط، وفتحنا الآفاق الفكرية لكل الاحتمالات نتيجة الاختلال السكاني في المنطقة.. وهذا في حد ذاته يشكل كبرى القضايا المستقلة بذاتها؛ لأن جنوح الاختلال لصالح الوافدين عدديًّا واقتصاديًّا وماليًّا سيجعله في موقع التأثير السياسي والأيديولوجي.

هل هناك ضمانات للمرور الديناميكي والمرن للآثار الناجمة عن تبني الأفكار الغربية داخل المنطقة الخليجية في ظل عدم وجود الحاضنة الديموقراطية لحسم الخلافات والصراعات على غرار التجربة الأوروبية؟ الأهم لابد أن تكون هناك رؤية واضحة للمُستقبل للتحول في مفهوم الدولة في دول مجلس التعاون الخليجي، نتمنَّى أن نكون قد وضعنا هذا الاستشراف فوق الطاولات السياسية لصناع القرار في الخليج، وحركنا الهواجس لدواعي استشراف المستقبل دون مفاجآت أو صناعة المتناقضات الصادمة والمتصارعة.