"اقتلوا يوسف".. مبدأ إبليسي

 

 

ماجد المرهون

MajidOmarMajid@outlook.com

"أو اطرحوهُ أرضًا يخلُ لكم وجه أبيكُم".. هكذا كاد العشرة الكبار بأخيهم الصغير كما زيَّن لهم الشيطان سوء عملهم بُغية الاستحواذ على رأس السُّلطة، ولو أنَّ نبي الله يعقوب -عليه السلام- فعل لكاد أحدهم بالآخر حتى أفنى بعضهم بعضًا، وهو نهج أصيل في مسارهم التاريخي، ويُبرر اليوم بنيامين نتنياهو قتلهم للمدنيين بأنه نوع من ضرورات صناعة الحضارة للشعوب المتقدمة؛ لم يدفع أبناء يعقوب عن أصغرهم تهمة السرقة وسُرعان ما رضخوا للأمر خوفًا من العقاب وتبريرًا لوسيلتهم في كسب غايتهم التي جاؤوا من أجلها، ولا بأس في فقدان أخيهم الأصغر مُقابل حِمْل بعير من طعام، ولهم في ذلك مُبررات جاهزة ستُطرح في حضرة أبيهم إسرائيل عند عودتهم إلى فلسطين، كما برروا قتل يوسف من قبل، وخدعوا أنفسهم بأنهم سيكونون بعدها قومًا صالحين، وكذلك خَدَعوا بها الآخرين.

اليوم تُبرر إسرائيل إثخانها في التقتيل والتدمير بالدفاع عن النفس، وذلك بعد صناعتهم صورة خادعة لجيشهم المتعطش للدماء بأنه أكثر الجيوش أخلاقية في العالم، ويبدو أن الاختلال الذهني متوارث وعقيدة لوثة الكراهية في عقولهم متناقلة بين أجيالهم، ويربُّونهم عليها منذ نعومة أظفارهم حتى ينشأ في بيئتها الصغير معتقدًا بصحة ما يفعله، وهذا عملٌ يتنافى مع توجهات الدول العريقة والشعوب القديمة الأصيلة، وإنما تفعله كيانات الأقليات الحديثة ناقصة الثقة، لكسب منافع في وقت قصير، لتتبوأ مكانة ارتسمتها لنفسها، وإن بنت توجهها على الكذب والغش والخداع والتدليس والتزوير، وبلا شك فإنها خمسة أعمدةٍ ضعيفةٍ لن تدوم طويلًا وعامل الوقت سيؤازر كل الظروف معه لينسفها من أساسها.

لم يكُن للشجرة التي أكل منها آدم اسم، ولا يهم نوعها بقدر ما يهم قانون مخالفة الأمر والنَّهي، ولكن إبليس أطلق عليها اسم شجرة الخُلد ليتمكن من استمالة الرغبة لها، ولم يكن آدم بحاجةٍ للحكم والوجاهةِ لانتفاء ضرورتهما في إبَّانه، ولكن الخناس وسوس له بمصطلح مُلكٍ لا يبلى، ونجد هنا جلاء تحويل الظواهر المانعة والمُحرمة إلى حوافز ومغريات من خلال التسميةِ والتعريف ووضع العناوين بما يتناسب مع الرغبات الإنسانية، والإنسان على إطلاقه العام قد جُبل على التصديق ما لم تتوافر حقائق واضحة للتكذيب، والتي قد تكون قليلة أو عُمل على إخفائها بالتضليل لأغراض سلطوية كما سيتضح في السياق اللاحق.

ولم يجد المحامي والكاتب المسرحي ثيودور هرتزل استحكامًا جيدًا في ضالته المنشودة بإقامة دولة لليهود من خلال الأطروحات الأدبية، كما قوبل بخيبة أمل من الدولة العثمانية والقيصرية الروسية وحتى الأراضي الأوغندية فيما يُعرف بالمسألة اليهودية، ولكن مع الدعم الألماني والبريطاني والأمريكي تمكَّن من وضع اسم وهو الصهيونية نسبةً إلى جبل صهيون في مدينة القُدس، وبذلك تحقق ربط اليهودية بالمكان وصناعة فكرة الدولة، حتى إذا ما تدخل بلفور وزير خارجية المملكة المتحدة بخطابة إلى ليونيل روتشيلد بعد وفاة هرتزل بثلاثة عشر عامًا في دعم الكذبة باتت واقعًا، واتخذت لنفسها شكلًا صلبًا من التصديق، وتنتهي بذلك مرحلة اختراع الدولة مع اختيار اسم إسرائيل لاستمالة الرغبات الموعودة لليهود الطامحين وتحقيق مصالح داعمي الصهيونية، وما تبقَّى بعد ذلك هو طمس الحقائق الأصلية للدولة الفلسطينية وهويتها الوطنية بالتزييف التاريخي والخداع التوراتي العاطفي وتحويل ظواهر الممانعة والرفض المنطقية إلى حوافز ومُغريات يمكن قبولها.

توالتْ بعدها طرق وأساليب التسميات ووضع العناوين والمعرفات، فأصبحت سرقة الأرض حقًّا موعودًا ويروَّج له بالمصير، وأسبغوا هذه الصورة على العالم الذي لا يعلم شيئًا، كما روَّجوا لاسم إسرائيل في حربهم ضد القوى الهمجية من حولها، وبات معظم سكان العالم لا يعلمون عن شيء اسمه فلسطين، وبدأ الوعي العام لدى الشعوب الغربية وبعض العقول العربية المتصهينة بالتشكل في القالب الإسرائيلي الجديد الذي حول الأكاذيب على مر السنين الماضية إلى صورة ذهنية شبه واقعية، وتلميع هذه الصورة بعمليات التلاعب بالمصطلحات على المستوى الإعلامي، كوصف السكان الأصليين بالهمجية والغوغائية تمهيدًا لتصفيتهم، كما فعلت الثورة الفرنسية في مدينة فاندي وقتلت ربع مليون إنسان، ثم إعادة تسمية المقاومة بالإرهاب والمقاومين بالمخربين، مع أن كل هذه الأوصاف والأفعال تنطبق جدًّا على المحتل، إلا أنه يسميها دفاعًا عن النفس ويبرر بها قتل عشرات الآلاف من الأبرياء، ويمارس جيشه المتغذِّي بعقيدة القتل والتعذيب والناشئ على علوم الكذب والزيف والخداع كل الأساليب في سبيل تحقيق مآربه، وأهمها أن لا تكون إنسانية، وبعد ذلك سيعودون لإطلاقات الأخلاقية والنزاهة ويكونون من بعده من الصالحين.

هل كان أبناءُ يعقوب من الصالحين بعد فعلتهم؟ يبدو أنَّهم لم يفوا بوعدهم حين اتهموا زُورًا وكذبًا أخاهم يوسف وبعد أكثر من ثلاثة عقود من غيابهِ بالسرقة وهم يعلمون أنهم كاذبون، وهكذا هم الذين يُخادعون ربهم وأنفسهم والنَّاس، ولكن يسخر الله الأحداث حتى تنكشف الحقيقة في يومٍ معلوم، وإن طال الزمان على الظالم واستبد به الاطمئنان لغيِّه وبغيه، فقد تبين اليوم وانكشف كل شيءٍ عن الكيان الصهيوني المجرم وعلى مستوى عالمي فاقعٍ غير مسبوق، مع كل المنهجية المخادعة التي اتخذوها في العقود السالفة، حيث بات الإنسان الغربي البسيط يعرف الشرق الأوسط الذي لم يكن يعرفه من قبل، وعلِم أن فلسطين هي الأصل وليست إسرائيل، وفهم معنى الانتفاضة والمقاومة والتهجير والعنصرية والمستوطن والإبادة، وتكشَّفت الصورة والأسماء الحقيقية تحت الصورة والأسماء الزائفة، واتضح من هو الكاذب الذي يتمظهر بالإنسانية وهو غارق في دماء الأبرياء، والمخادع المتغني بالحقوق والحريات وهو يقمع كُل حرية رأي وتعبير.

إنَّها شِرذمة منزورة على رأس السُلطة، تُعيد تسمية شجرة الخُلد والملك الذي لا يبلى، بالاتفاق فيما بينها على بقائها وتقاسم مصالحها ومنافعها على حساب الإنسان والقيم الإنسانية، فيكذبون عندما يتحدثون والكل يعلم ذلك، إلا أنه كذبٌ جميل مُنظَّم مُغلَّف بالمسميات الجديدة التي تُبرر أفعالهم والمصطلحات المُقننة التي تُمرر خططهم وتحميهم من العِقاب.