د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
تُعتبر السياسة المالية أداةً أساسية ومحورية في توجيه مسارات التنمية الشاملة في مختلف جوانبها، بدءا من تعزيز مستويات النمو الاقتصادي، مرورا بتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين مستوى المعيشة ووصولا إلى حالة الرفاه الاجتماعي. ويتجلى ذلك من خلال توجيه الإنفاق العام نحو قطاعات استراتيجية، وخلق فرص عمل جديدة، وتوفير شبكات أمان اجتماعية، وتطوير البنية التحتية، وإيجاد مصادر إيرادات أخرى غير الإيرادات النفطية.
وعلى غرار الدول النفطية الأخرى، تواجه السلطنة تحديات هيكلية جوهرية في مجال تركز الإيرادات، حيث تشكل الإيرادات النفطية العمود الفقري للميزانية العامة للدولة. فقد بلغت نسبة هذه الإيرادات إلى إجمالي الإيرادات، في المتوسط، حوالي 84% خلال الفترة (1980-2000)، وتراجعت بشكل طفيف، في المتوسط، إلى قرابة 75% في الفترة (2001-2023)، مما يعكس استمرار الاعتماد الكبير على النفط كمصدر رئيسي للدخل. وبالتوازي مع ذلك، تظهر هيكلية الإنفاق الحكومي نمطية ورتابة في السياسة المالية، حيث يستحوذ الإنفاق الجاري على الحصة الأكبر من الميزانية، بنسبة بلغت 76%، في المتوسط، خلال الفترة (1980-2000)، وانخفضت قليلاً إلى نحو 70%، في المتوسط، خلال الفترة (2001-2023). هذه الإحصاءات تدق ناقوس الخطر بشأن الأوضاع المالية وحالة الاستقرار الاقتصادي في ظل احتمالات تراجع الطلب على النفط وانخفاض أسعاره مستقبلاً على ضوء التغيرات المتسارعة في أسواق الطاقة وتراجع الاحتياطات النفطية على المدى البعيد. وتجدر الإشارة هنا إلى تقرير وزارة الطاقة الصادر مؤخرا والذي يشير إلى أن إجمالي الاحتياطي من النفط الخام والمكثفات النفطية في سلطنة عمان في نهاية 2023 يبلغ 4971 مليون برميل، وإذا قسمنا هذا الرقم على معدل إنتاجنا اليومي مليون برميل في اليوم وعلى 360 يوما في سنه، فهذا يعني أنه أمامنا ما يقل عن 14 عاماً لنضوب الاحتياطات، طبعا بافتراض عدم وجود استكشافات جديدة. والسؤال الذي يطرح نفسه: وماذا بعد؟ ولا تخفى حجم الضغوط على النفط في جانبي العرض وظهور بدائل جديدة والطلب، خاصة وأننا نصدر أكثر من 90% من نفطنا إلى الصين، وما أنفقته الصين في الاستثمار والحصول على الطاقة المتجددة رقم كبير جدا السنة الماضية، أكثر من 65.1 مليار دولار في مشروعات الطاقة المتجددة، رفعت الإنتاج العالمي من الطاقة المتجددة بنسبة 50% وتمتلك 80% من سلاسل توريده. لذلك؛ فإنه من الضروري إعداد العدة وإدخال تغيرات جذرية مدروسة في أوجه إنفاق وإيرادات الميزانية العامة.
وفي هذا المقال، بمساحته الضيقة، سنحاول تسليط الضوء على التغيرات المطلوبة في أوجه الإنفاق الحكومي لتحقيق الأهداف الاقتصادية المنشودة.
لقد أثبتت السياسة المالية في سلطنة عُمان نجاعتها خلال المراحل التنموية المختلفة؛ حيث ركزت منذ بداية عام 1970 إلى 1995 على بناء مقومات الدولة الحديثة المحدودة آنذاك من مدارس ومستشفيات وطرق ومرافق حكومية وحاجات ملحة واستمر ذات التوجه في المرحلة اللاحقة من عام ١٩٩٦-٢٠٢٠م وما يعرف برؤية عمان 2020، والتي واصلت نفس النهج في استكمال تطوير البنية الأساسية والتوسع في ما تم بناؤه وأوجدت بنية أساسية متطورة نفخر بها وجاهزة بالانطلاق بعمان إلى مرحلة جديدة من النمو عنوانها قطاعات إنتاجية وخدمية موجهة للتصدير قادرة على مواصلة النمو المموَّل في المرحلة السابقة بالإيرادات النفطية؛ وإيجاد وظائف لأبناء وبنات عمان في قطاعات اقتصادية بعيدا عن القطاع العام؛ وتنويع القواعد الإنتاجية وتعظيم الاستفادة من الاستثمارات الضخمة للحكومة في الحقبة الماضية.
غير أنَّ استمرار المالية العامة في نهجها الحالي التقليدي المتبع خلال المرحلتين السابقتين لن يفضي إلى نتائج مغايرة، والمتتبع للمشهد الاقتصادي يُدرك جليًّا أن الأهداف الثلاثية المتمثلة في: استدامة النمو، وخلق فرص العمل، وتنويع القاعدة الاقتصادية، لا تزال -وبالرغم مما تم إنجازه- بعيدة المنال في ظل الأداء الحالي للسياسة المالية. وعليه، فإن الضرورة تستدعي إحداث تحول جوهري في الفلسفة العامة لإدارة التنمية، وإعادة ضبط بوصلة السياسة المالية في جانبي الإيرادات والنفقات. بحيث يتم توجيه الإنفاق العام؛ باعتباره الأداة الأكثر فاعلية في رسم المسارات الاقتصادية المستقبلية، نحو وجهة أكثر إنتاجية واستدامة. وذلك من خلال التحول من نمط الإنفاق التقليدي المتمركز حول الحكومة وكياناتها، إلى الاستثمار في مكونين أساسيين لا يقلان أهمية، وهما: أولا: الأفراد في المجتمع بتسليحهم بالمعرفة والمهارات الجديدة للاقتصاد الجديد في الأتمتة والذكاء الاصطناعي وأساليب الإنتاج الحديثة وإدارة المصانع وأساليب الصيد والزراعة والتجارية...وغيرها ليكونوا محل طالب داخل وخارج السلطنة. وثانيا: شركات القطاع الخاص بمختلف فئاتها، والتي تحتاج إلى تمكين ودعم خاص كونها المعنية بتحقيق رؤية عمان 2040، ووصول عُمان إلى مصاف الدول المتقدمة، وتكون قادرة على الإنتاج والمنافسة واستقطاب الاستثمارات والتفاعل مع سلاسل الامداد العالمية. الأمر الذي لن يحدث دون توجيه الانفاق بأسلوب ذكي إلى هاتين الفئتين؛ من خلال الإنفاق على تطوير البنية الأساسية للتجمعات الاقتصادية الصناعية والخدماتية والسياحية في مختلف محافظات السلطنة التي نمتلك فيها مزايا نسبيه؛ حيث لن يتسنى تفعيل هذه التجمعات والمناطق الصناعية دون استكمال البنى الأساسية، وتطوير الأطر التشريعية، وتقديم حزم تحفيزية مدروسة بعناية.
ومن بين أوجه الإنفاق المهمة في المرحلة القادمة: هو الانفاق على الجوانب التسويقية لسلطنة إقليميًّا وعالميًّا كوجهة استثمارية وملاذ آمن لرؤوس الأموال، وتمكين فريق وطني بالأدوات لاقتناص ما تفرزه التغيرات الجيوسياسية وفي مختلف الأصعدة من فرص، وفي نفس السياق ولتعظيم الميزة الجمالية للسلطنة ضرورة توجيه الإنفاق بشكل ذكي لتسويق السلطنة سياحيًّا لاجتذاب المزيد من السياح على مدار العام. وكذلك الأمر لتعظيم الميزة المكانية للسلطنة وضرورة الإنفاق على إعادة إحياء الجينات اللوجستية والتجارية لهذه الاأرض الطيبة والتي كانت إمبراطورية بحرية وتجارية؛ من خلال ربطها بالعالم بخطوط الملاحة والطيران والطرق وسكك الحديد.
ولا يفوتنا الإشارة إلى أهمية تبني إنشاء مركز للدراسات والبحوث الاستراتيجية لسد الفجوة الواضحة في الدراسات المعمقة لبعض القضايا والهواجس الوطنية وأثرها الاقتصادية والاجتماعية وأهم السياسات لتعامل معها.
وكذلك هناك أهمية خاصة لتوجيه الإنفاق لنهوض الشركات المحلية، والتي لا تزال مساهمتها محدودة في معادلة التنمية المحلية؛ وذلك من خلال تسهيل الحصول على التمويل والحاجة إلى الإسراع في إنشاء شركة لضمان القروض لتشجيع البنوك على الإقبال على اقراض الشركات غير الحكومية. وكذلك إيجاد أدوات لمساعدة الشركات على زيادة استخدام التكنولوجيا المتطورة ورفع كفاءتها بشكل واسع. وفي ضوء صغر السوق المحلي وعدم القدرة على الوصول إلى اقتصاديات الحجم الكبير، علينا في هذا البلد العزيز إيجاد أدوات للنهوض في قطاع التصنيع، وتشجيع التصدير وفتح الأسواق وعولمة الشركات بحيث يتم إيجاد سياسات ذكية لتحمل بعض كلف النقل والشحن والتامين ودعم ذكي لمدخلات الإنتاج والتصنيع المحلي وكذلك تقديم حزم فاعلة لضمان الصادرات والتسهيل الشركات.
ومن بين القنوات المهمة التي يجب أن تركز عليها السياسة المالية: هو توجيه الانفاق لزيادة تنافسية إنتاج السلع والخدمات محليا، فلا تزال تكاليف ممارسة الأعمال والتشغيل في السلطنة مرتفعة نسبيا مقارنة بدول المنطقة، وتتضمن هذه التكلفة توليفة من تعريفة كهرباء والماء والإيجارات والرسوم والضرائب والعمالة وغيرها من تكاليف. ولا نخفي القول بأنَّ استمرار ضعف تنافسية قطاعي الإنتاج السلعي والخدمي؛ وبالتالي استمرار ضعف وتواضع الصادرات الوطنية، غير النفطية، السلعية والخدمية، لن يقودنا إلا إلى الاستمرار في حلقة مفرغة، باحثين عن استدامة النمو، وخلق فرص العمل، وتنويع القاعدة الاقتصادية.
ولا يفوتنا التذكير بأهمية إيجاد برامج انقاذ للشركات المحلية المختلفة ومنها العائلية والمصانع المتعثرة لتنهض من جديد، خاصة في ظل قطاع مصرفي متواضع وصامد في وجه كل التغيرات والأزمات، جل اهتمامه شركات وموظفي الحكومة والقروض الاستهلاكية. ونود أن نشير كذلك إلى أحد العناصر الذي يعد سر نهوض الأمم والذي ما زلنا نغفله، وهو البحث والتطوير والابتكار، والذي بدونه سنظل ندور في نفس الدائرة ونتقاذف المسؤوليات، ونتفنن في إيجاد المبررات، والتي ستفوت علينا فرصة عظيمة للانطلاق الاقتصادي في بلد حباه الله بمختلف الموارد وأنعم عليه بالأمن والأمان والقيادات الحكيمة. ومن المهم فرض إلزامية استخدام المنتج المحلي في المناقصات الحكومية؛ حيث لا يزال الأمر اختياريًّا وتتفنن الشركات في تجاوز استخدام المنتج المحلي، ونشير هنا إلى "المملكة العربية السعودية الشقيقة التي لديها تجربة مُتميزة في هذا الشأن".
ومن جانب آخر، ولتنشيط الحراك الاقتصادي وزيادة ضخ الأموال والاستثمارات وتخفيض التكاليف، هناك قرارات جسورة تنتظر من يأخذها على سبيل المثال وليس الحصر: السماح للشركات والمصانع والمنشآت الفندقية بتوليد الطاقة النظيفة التي تحتاجها، والسماح بالتملك العقاري لغير العُمانيين وكل ذلك وفق معايير واشتراطات مُعينة تراعي الاحتياجات التنموية والنسيج العماني.
وفي جانب الدعم الحكومي، من المهم التركيز في توجيه هذا الدعم بشكل فعال ومستهدف لتحفيز الدورة الاقتصادية المحلية؛ من خلال توجيهه إلى فئات المستهلكين ذوي الميل الحدي للاستهلاك المرتفع، وليس إلى الجميع (الدعم يجب أن لا يُعمَّم فليس جميع صغار السن وكبار السن في حاجة لدعم)، ودعمهم لا يُؤثر في إنفاقهم.
... إنَّ المستقبل ملك من يصنعه، وعُمان قادرة على صناعة المستقبل الذي يضمن الحياة الكريمة ويوفر الوظائف المنتجة لأبنائها. ونؤكد ما نقول من أنَّ استمرار إدارة السياسة المالية بأسلوبها التقليدي في بداية نهضة عُمان خلال مراحلها المختلفة قد لا يُحقق القفزات التنموية المأمولة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ضمن رؤية عمان 2040. فتحقيق الرؤية وتحفيز الاقتصاد يتطلب تضافر عدة عوامل وأدوار متشابكة ومترابطة، وأنَّ إغفال أيٍّ منها يعني إغفال العملية برمتها. ومن الأهمية بمكان قراءة ما بين السطور للمؤشرات الدورية لحالة الاقتصاد في جوانبه الاستهلاكية والاستثمارية والقوة الشرائية للأفراد. كما يجب تجنب الخطأ الإستراتيجي المتمثل في تفرد الحكومة بإدارة ملفات الاقتصاد وتحديد الأولويات الوطنية، وما ينفع وما لا ينفع القطاع الخاص وأفراد المجتمع، بل ينبغي إيجاد درجة عالية من الانسجام والتكامل في الأدوار بين صانعي التنمية والمستقبل -أفراد المجتمع وأسره، شركات القطاع الخاص، والحكومة بمختلف أجهزتها وكياناتها. ولعلنا لا نغالي بالقول إنَّ التقطير في الإنفاق والبطء في اتخاذ قرارات جسورة في التوجهات المشار إليها يفوت علينا فرصًا عظيمة لتحقيق التحولات النوعية المنشودة للاقتصاد والمجتمع العماني في ظل التسارع الإقليمي والعالمي وحالة عدم اليقين السائدة.
ونختم بمقولة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق -حفظه الله وسدد للخير خطاه ورزقه البطانة الصالحة- "إنَّ عمل الفريق هو دائمًا ناجح، وإن شاء الله في هذا البلد دائمًا نعمل كفريق في كل المجالات".