سلطان بن محمد القاسمي
في سكون الليل الحالك؛ حيث يستتر العالم تحت وشاح الظلام، تبقى نجمة واحدة تلمع في سماء قلبي، تلك هي أمي. كانت تلك الروح النابضة بالحياة، التي علمتني كيف أعتنق النور حتى في أشد الأيام ظلمة.
محرومٌ جدًا من لا يعشق ظلًا في الدار ينطقها العالم أمًّا، ويحكيها القلب روحًا، ويترنمها القول أنغامًا. محرومٌ جدًا من يسكن بجوار الحب ولا يدري كيف يحياه ويعيشه. محرومٌ جدًا من لا تحتفل به أمه عمرًا، ذاك الذي يتصدق بكلمة في يوم الأم، والأم هي الأيام، والحب، بل هي أنت.. يا أنت.
الأم، يجهل قدرها من لا قدر له، من لا علم له، من لا فهم له، من لا تشغله إلّا نفسه. وقد يشعر بعد فوات الأوان، بعد أن يخسرها، كم ضيع من عمره أيامًا وأيامًا كانت لتكون أبهى لو جلس عند قدمي أمه، يطلب رضاها ودعاءها، وتقبيل كفها ورأسها، ويتلمس في عينيها ما ترغب، فيلبي لها قلبه قبل يديه، ويسعى ليسُرَّها بروحه قبل جيبه. من فَقَدَ أمه ولم يُرضها فَقَدَ الكثير الكثير، فمن يكافئ الأم بعد الفقد؟ لا أحد.. إلا قلب آمن بالله، أرضاها من قبل، وأسعدها بعد بعمل صالح، وصدقة مستمرة، ودعاء عريض آناء الليل وأطراف النهار.
وأنا لم أكن أظن يومًا أني سأفقد ذلك الظل الظليل بهذه السرعة.. ما كنت أظن.. أن الآجال تتخطف الناس من حولي على حين غرة.. وإن كانت أمي ومن قبلها أبي.. ولو كنت بأمس الحاجة لهما.. لكنه أجل لا بُد أن يأتي.. ولا بُد لي أن أبرّ وأن أُحسن لمن فقدت .. فإني أظنُّ - وهذه المرة أثق بظني- أن ما أقوم به سيصل إليهما سرورًا وسعادةً.. ومحبةً وفرحًا.. كأنني أراهما الآن يضحكان لكلماتي.. يبتسمان... ينتشيان.. يتعانقان.. وكأنني أسمع لصوتهما صدى يقول: رضي الله عنك.. يا بني.. كما أرضيتنا.. واسعدك كما أسعدتنا.. وكأنني اسمع صدى الوحي يردد: "وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرًا"..
أمي، ذاك الاسم الذي يكتنفه الحب الخالد والحنان الذي لا يفتر. في رحيلك، يا أمي، خلّفت خلفك فراغًا لا يملؤه الزمن، وذكريات تفوق العد. كنتِ مثال العطاء بلا حدود، والصبر الذي يقهر الصعاب، والأمل الذي لا يعرف المستحيل. في وجودك كانت الحياة أكثر إشراقًا، وفي غيابك بات كل شيء يحمل لون الحنين.
لقد علمتني، بصمتك النبيل، دروسًا عظيمة في الحب والتضحية. كنت تنسجين من روحك ثوبًا يحتوينا، يحمينا من قسوة الأيام وبرودة الوحدة. كنت لنا السند الذي إن مالت به الدنيا، تماسك ولم ينثني.
أتذكر الآن كيف كانت يداك تلك البوصلة التي تهديني خلال عواصف الحياة. لم يكن هناك خوف يستطيع أن يقتحم سكون الليل طالما كنت أستمد الأمان من صدرك. كنتِ اللحن الذي يتردد في أعماقي، يوقظ فيّ الأمل ويبعث النور في دروبي المظلمة.
يا أمي، في كل مرة تشرق الشمس أراك في أشعتها الذهبية، وفي كل مساء إذ تغفو الأفق تحت طيات الغسق، أرى ظلك يمتد على جدران قلبي. لقد كنتِ لي الدفء في برد الوحدة، والسلوان في لحظات الأسى. كيف لا، وأنتِ من علمتني أن الحب لا يعرف حدودًا ولا يقيده زمان أو مكان.
رحيلك، يا أمي، كان كسرًا لا يُجبر، لكن في كل يوم أجد فيه قوة أن أمضي، أعلم أنه بفضل القوة التي زرعتيها فيّ. وأنا الآن، إذ أكتب هذه الكلمات، أحاول أن أرسم من حروفي صورة لمحبتك، أتأمل أن تحلق فوق عالمي كطائر الفينيق الذي يولد من جديد من تحت الرماد.
لم يكن حبك مجرد مشاعر تتردد في أرجاء البيت؛ بل كان عملًا مُستمرًا، صلة لا تنقطع، تعبيرًا عن الجمال في أسمى معانيه. في كل زاوية من هذا البيت، في كل لمسة على الأثاث، في كل قطعة من الزهور التي زرعتها، أرى بصمات يدك التي لطالما كانت مصدر إلهامي وأماني.
أمي الغالية، اليوم أنتِ لست بيننا بجسدك، لكن روحك تظل تحوم حولنا، توجهنا وترعانا. أشكرك على كل ما قدمتيه، وإن كانت الكلمات لا تفي حقك أبدًا. سأحمل ذكراك في قلبي، كعهدٍ أبديٍّ بأنني سأظل أحبك وأذكرك، حتى يوم أن نلتقي مجددًا في عالمٍ لا يعرف الفراق.
في رثائك، يا أمي، لن أقول وداعًا، بل إلى اللقاء. لأنني أعلم أن كل نسيم يحمل إليّ عطرك، وكل ضحكة تذكرني بصوتك، وكل دمعة تعكس صورتك. فأنتِ هنا، معي، دائمًا وأبدًا، في القلب تسكنين، وفي الروح تعيشين.
من كانت له أم تنعم بالحياة، فلينعم هو ببرها، ومودتها، ولا يضيع يومًا دون أن يبرها ولو بكلمة، الخسارة الحقيقية ليست خسارة المال، ولا الوظيفة، الخسارة الفادحة فَقْدُ الأم، لأنها خيمة لك من برد وحر، وأُنس لك من وحشة وفقر، ووطن لك من غربة ووحدة. الأمُّ جنة الله في الأرض، فاسكنوها واعمروها وانعموا بأفيائها وخيراتها، فإن من ورائنا يوم فقد شديد وعصيب. وكم أني حزين لفراقها، وأسعى لأن أعوِّض ذلك في أن أقص على أولادي أجمل قصة في حياتي هي قصة أمي..
تعجَّل.. يا من لك أُمٌّ تعيش معك.. بالقرب منك.. لا تُطل بينها المسافات.. وتُعكِّر عليها أيامها.. لاتُسئ إليها.. أحسن ثم أحسن ثم أحسن... فإن للمحسنين سرورًا.
رحم الله أمهاتنا جميعًا، ومنح الأحياء منهن صحة وسلامة وعزيمة.