ناصر أبوعون
حقًا إن البشر الذين يصنعون التاريخ يحملون أقدارهم فوق أكتافهم، وفي ميامينهم قلوب أوطانهم النّابضة بالحياة والحبّ ترفرفُ في سمائِها رايات السلام.. هكذا كان السيد عبدالله بن حمد قبل رحيله.
لقد كان السيد عبد الله بن حمد البوسعيدي عِصاميّ الثقافة، بنى شخصيته الفكرية واقتطعها من صخرة المعرفة، وحمل وطنه عُمان في مَزاود رحلاته حول العالم، وقدّمه مثل جواز سفره عنوانا له أينما حلَّ وارتحل.
إنّ كثيرا من العرب والأجانب الذين اقتربوا من السيد عبدالله بن حمد وعاصروه عرفوا وخبروا عُمان الوطن والتاريخ من خلاله؛ فقد كان سِمْته ولسانه وفكره صورة حيّة وناصعة البياض لحضارة وطنه عُمان التي تمشي على الأرض ترفع رايات السلام والصداقة والحوار مع الآخر.
لقد عاش السيد عبد الله بن حمد خادما للعلم والثقافة، وقد كانت آخر مبادراته الثقافية تأسيس جمعية الصداقة العمانية السويسرية وشغل منصب الرئيس الفخري لها، ومن قبلها كان أحد المؤسسين الأوائل لجامعة الشرقية التي اعتنت على وجه الخصوص بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، ومازالت الصالونات الثقافية والمجالس الأدبية إلى الآن في القاهرة تعيش ذكريات “صالون الخليل بن أحمد الفراهيدي” الذي دشنه عام 1996م عندما كان يشغل منصب المندوب الدائم لسلطنة عمان في جامعة الدول العربية وسفيرها المعتمد لدى جمهورية مصر العربية وقد كان هذا الصالون جسرا ثقافيا بين الثقافتين العمانية والمصرية، استضاف فيه الكثير من القامات الفكرية العربية، نخص بالذكر منهم: أنيس منصور، وسكينة فؤاد، وعائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء، والشيخ أمين الخولي، محمد الحيوان، وعبد الله عبد الباري، والعديد من رواد القصة والرواية ورؤساء تحرير الصحف المصرية الشهيرة الأهرام والأخبار والجمهورية.
الجدير بالذكر أنّ فقيد الثقافة العُمانية والعربية السيد عبدالله بن حمد عشّاقا للكتب وجامعًا للمخطوطات العربية، حصّلها من أسفاره وعلاقاته الشخصية المباشرة، وأواصر صلاته بالمشتغلين بصناعة الكتب ومحققي التراث العربيّ حول العالم، ومن عيون المخطوطات التي تتربّع على أرفف مكتبته (بُردة الإمام البوصيري) في مدح سيد الأنام الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بحجم كبير يماثل صحات الصحف الورقية اليومية في مقاساته ومُذَهَّبَة زخارفها وحواشيها ومنسوخة بالخط الكوفيّ فضلا عن العديد من الصورة المنسوخة من أصول الكتب الموسوعية ولم تمتد لها أيدي المحققين حتى يومنا هذا.
لقد خلّف والده القاضي الشيخ العلمة حمد البوسعيدي العديد من التآليف والتصانيف التي كان جوهرها ومحتواها يعبر عن اهتمامه بالتأريخ للحضارة العُمانية وتوثيق منجزاتها، وقد طالعنا مصنفه (جوهرة الزمان في ذكر سمد الشأن)، الذي يُعد موسوعة جغرافية وتاريخية وتصنيفا للعادات والتقاليد العُمانية. ومن خلال سِفره الشهير المعنون بـ(الموجز المفيد نبذ من تاريخ البوسعيد) سرد للقراء النشأة الحضارية للآباء المؤسسين للدولة العُمانية منذ مطلع شمس الحضارة العُمانية وعرّج على دورهم النهضويّ، وكذلك لا يُنسى فضله في التوثيق الموسوعيّ من خلال مؤلّفه العمدة في مجاله والمعنون بـ(قلائد الجمان من أسماء شعراء عمان)، وكذلك (إرشاد السائل من أجوبة المسائل)، و(الجواهر السنية في المسائل النظمية).
ولاشك أن شخصية الإنسان هي جماع بيئته الأولى التي شكّلت وعيه الأوليّ، فقد كان أحد المتخرجين من المدرسة السعيدية مفخرة التعليم العُماني ومصنع الرجال الذين قادوا النهضة العُمانية منذ ميلادها في سبعينيات القرن العشرين، ثم تأثّر في توجّهاته بشخصية والده القاضي السيد حمد بن سيف بن محمد البوسعيدي، الذي جمع بين منصبي (الولاية والقضاء) في ولاية دماء والطائيين (1949م)، وارتحل طوال حياته قاضيا في ولايات محافظة الشرقية وتنقّل بين (صور)، و(جعلان)، و(وادي بني خالد)، وصولا إلى (قريات) في مسقط، ثم انتقل إلى محافظة الباطنة واشتغل بالقضاء ما بين ولايتي (المصنعة)، و(السويق)، ومع إطلالة عصر النهضة تولى منصبا قضائيا بـ(وزارة شؤون الأراضي)، لينتقل بعدها إلى المحكمة الشرعية بمسقط، وقبل وفاته شغل وظيفة المستشار القضائي لوزير العدل.
وفي الأخير.. كلنا نرحل ويبقى الأثر، والسيد عبدالله بن حمد ترك خلفه إرثًا معرفيا وصرحا علميا، ومجموعة من المؤلفات التي لا غنى عنها للأجيال القادمة ستمُد له في أثره وتَنسأ له في عمره، وتُخلّد ذكراه مهما تقادمت السنون، وتواترت العصور، وهي عند الله خير وأبقى.