مبادرة الرئيس بايدن.. في ملعب من الآن؟!

 

جمال بن ماجد الكندي

مُبادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة كانت مُفاجِئة للجانب الإسرائيلي في توقيتها وطريقة الإعلان عنها بتفاصيل مراحلها الثلاثة، ويكمن عنصر المُفاجأة في أنها جاءت لتُثبت ما تطلبه المقاومة الفلسطينية في أي هدنة مع الكيان الصهيوني؛ وهو الوقف الدائم للحرب، والانسحاب غير المشروط لجيش الاحتلال من غزة، ثم المرحلة الأخيرة وهي مرحلة إعمار غزة، وطبعًا خلال المراحل الثلاثة دخول المساعدات الإنسانية .

المرحلة الأولى تمتد إلى 6 أسابيع، وفيها وقف شامل لإطلاق النَّار وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية من كل المناطق الآهلة بالسكان، وتبادل للأسرى بين الطرفين. والمرحلة الثانية هي المرحلة الحاسمة في وقف دائم لإطلاق النَّار بمعنى وقف الحرب، وهذا ما تعتبره إسرائيل هزيمة كبرى لها في غزة؛ لأنها لم تُحقق أهداف حربها، وهي القضاء على المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس. وهذا ما فاجأ الصهاينة في المبادرة الأمريكية. أما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة الإعمار وإنهاء الصراع.

الرئيس الأمريكي عند عرض هذه المُبادرة، صرح بتفاصيل مراحلها الثلاثة، وقال إن بعض الأطراف لن يتفق مع هذه الخطة، وهو يقصد المتطرفين اليمينيين في الحكومة الإسرائيلية وعلى رأسهم نتنياهو؛ لأنها ببساطة تُنهي الحرب قبل "القضاء" على المقاومة الفلسطينية في غزة، وأنها لا تُناقِش اليوم التالي لما بعد وقف إطلاق النَّار، الذي يُبقي حماس مسيطرة على قطاع غزة، وهذا الأمر يمثل فشلًا كبيرًا لإسرائيل في حربها.

إنَّ وصول الأمريكان إلى هذه القناعة، وهي عدم تمكن الجيش الإسرائيلي من القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة، وعرضهم لهذه المبادرة جاء بعد إدراكهم عدم قدرة "نتينياهو" على تحقيق أهدافه في غزة والتي وعد بها، فالمُقاومة في غزة هي فكرة وليست جسمًا عسكريًا فقط يُقضى عليه وينتهي الأمر، وقد بنى الأمريكيون ذلك من خلال خبرتهم في الحروب العبثية التي خاضوها منذ الحرب الفيتنامية إلى الحرب الأفغانية، فكلها كانت حروبًا فاشلة خاضتها أمريكا مع هذه الدول وخسرت فيها مهما طال أمد احتلالها لهذه البلدان، وصورة أفغانستان أكبر دليل على ذلك.

السؤال الجوهري الذي يُطرح هنا، لماذا الآن يخرج الرئيس بايدن بهذه المبادرة التفصيلية، ويقول إنها لن تلقى القبول لدى بعض الساسة الصهاينة؛ كونها ستُخرِج حماس منتصرة مع المحور الذي يُساندها في اليمن والعراق ولبنان؟ ما الذي يُجبِر أمريكا على طرح هذه المبادرة بهذا الشكل، والتخلي عن شرط إخراج حماس من المعادلة السياسية والعسكرية في غزة مهزومةً؟ كما كان يُروج له الأمريكي قبل الإسرائيلي بعد نصر السابع من أكتوبر؟!

هناك مُعطيات كانت ضاغطة على الأمريكي لعرض هذه المبادرة نوجزها في جانبين سياسي وإعلامي، والجانب الآخر عسكري في غزة وفي الجبهات المُسانِدة.

سياسيًا وإعلاميًا: هذه الحرب الهمجية طوال شهورها الثمانية أثبتت دموية الجيش الإسرائيلي ليس للعرب والمُسلمين فهذا الأمر معروف لدينا منذ زراعة هذا الكيان السرطاني في قلب الأمة العربية، ولكن أصبح ملموسًا في العقل الجمعي الأمريكي والأوروبي؛ بل العالمي؛ إذ إن مناظر قتل الأطفال والشيوخ والنساء والتدمير الممنهج للبنية التحتية في غزة أثبت للعالم أنَّ هذا الكيان هو كيان دموي مُجرم يريد قتل وتهجير كل الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية وإقامة دولة يهودية خالصة على أرض اغتصبها من أهلها في عام 1948.

السردية الصهيونية لما يحدث في غزة لم تلق القبول الإعلامي والسياسي في العالم، مقابل الواقع المعاش يوميًا في غزة لأبشع جرائم ضد الإنسانية يرتكبها الجيش الإسرائيلي تُبث عبر وسائل الإعلام بشكل يومي. هذا الأمر جعل هذا الكيان صعب التغطية على جرائمه، فأصبح شبه معزول وبقيت أمريكا وحدها من يدافع عنه في المحافل الدولية باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد أي قرار يدينه ويخرج المقاومة الفلسطينية منتصرة بسرديتها. لكن اليوم المُعطيات الإجرامية الصهيونية أصبحت واضحة إعلاميًا وسياسيًا وها هو رئيس وزرائها نتنياهو أصبح مطلوباً للعدلة مع وزير حربه لدى محكمة العدل الدولية، لذا كان لا بُد للحليف الأمريكي من التحرك وإنهاء دموية هذا الكيان بإيقاف الحرب، لا سيما أن الحزب الديمقراطي بدأ يفقد أصواتًا مهمة لفئة الشباب والفئات الأخرى بسبب دعمه المطلق لجرائم إسرائيل في غزة، فكانت هذه المبادرة.

عسكريًا: الفشل الإسرائيلي في تحقيق أهداف العدوان على غزة والتي كانت بتحرير الأسرى والقضاء على المقاومة الفلسطينية. فبعد 8 أشهر ما زال الجيش الإسرائيلي يستهدف مناطق في الشمال، والوسط التي كان يدعي أنه سيطر عليها، والتأكيد على معركة رفح بأنها أم المعارك وستنهي المقاومة الفلسطينية، فثبت زيف ذلك وما معركة رفح إلا انتكاسة إسرائيلية أخرى كما كان في الشمال والوسط.

هذه المعطيات العسكرية في غزة جعلت الأمريكان يقتنعون بأن المقاومة فكرة وليست جسدًا يُقضى عليه، فهي فكرة في عقول الفلسطينيين مرتبطة بالأرض والعرض، ولا يمكن القضاء عليها، والتجربة الفيتنامية والعراقية والأفغانية التي خاضها الأمريكيون وحاولوا القضاء عليها وفشلوا شاهد على ذلك.

الجبهات المساندة: جبهة لبنان: وهي الضاغطة الأكبر على الكيان الصهيوني، أصبحت الرعب الكبير للشمال الفلسطيني المحتل، والواقع اليوم يقول إن هذه الجبهة تتطور كل يوم من ناحية الاستهداف العسكري للمقاومة اللبنانية واستخدام الأسلحة المناسبة فيها للأهداف العسكرية الإسرائيلية في الشمال، والتي تفاجأ الإسرائيلي بها، ووسائل إعلامه تتحدث عن ذلك وعن قوة حزب الله وتكتيكاته الحربية، وأصبحنا نسمع مصطلح التهجير لسكان الشمال الفلسطيني المحتل خاصة في منطقة "كريات شمونة".

جبهة اليمن: تأثيرها أكبر على الجانب الاقتصادي الإسرائيلي، وفي الهيبة العسكرية الأمريكية؛ فما يقوم به أنصار الله من منع السفن التي تحمل سلعًا استهلاكية من دخول الموانئ الصهيونية أثّر على الاقتصاد الإسرائيلي. والحصار اليمني على ما يدخل عبر البحر الأحمر إلى الكيان الصهيوني أصاب هذا الكيان بالعجز الاقتصادي، فشريان الحياة الاقتصادية بالنسبة لإسرائيل هو البحر الأحمر، ومحاصرة هذا الشريان يسبب أزمة اقتصادية كبيرة ظهرت نتائجها في الداخل الإسرائيلي.

التطور الكبير الآخر هو في استهداف أنصار الله السفن العسكرية الأمريكية والبريطانية وقدرتها على الإصابة الدقيقة لهذه السفن خلق علامات استفهام كبيرة لدى الأمريكيين فيما تملكه حكومة صنعاء من أسلحة متطورة استطاعت إصابة فخر الصناعة الأمريكية وهي حاملة الطائرات "آيزنهاور". وما زالت تستهدف السفن الحربية والصورة المسربة عبر الأقمار الصينية والتي تُظهر إصابة حاملة الطائرات "آيزنهاور"، وهو ما يعيد الحسابات الأمريكية لهذه الجبهة وجبهة اليمن، والأمريكي والبريطاني يعلمان بأن مفتاح تهدئة هذه الجبهات الضاغطة من غزة فقط.

الخلاصة.. هذه المعطيات السياسية والإعلامية والعسكرية كانت من أسباب تقديم أمريكا لمقترحها لوقف الحرب في غزة، خاصة وأن ربيبتها إسرائيل أصبحت في عزلة دولية ومدانة من الجميع، ورقعة الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية وحقوقها في أرضها بدأت تتضاعف خاصة بعد دخول دول أوروبية إلى نادي المُعترفين بفلسطين.

الكرة في ملعب من إذن؟!

بعد المبادرة الأمريكية والتغطية الأممية للمبادرة بقرار أممي بوقف الحرب وترحيب فلسطيني عربي بهذا القرار فهو يتبنى ما تطلبه المقاومة الفلسطينية، لذلك نرى أن الكرة في الملعب الصهيوني والقبول بهذه المبادرة التي ترسخت بقرار أممي، سيكون بمثابة إعلان فشل الأهداف الإسرائيلية. فهل تقبل إسرائيل بالمبادرة الأمريكية؟ أم تتلاعب بمراحلها الثلاثة؟!

لذلك المطلوب ضمانات دولية لتحقيق هذه المبادرة، وحذر من المقاومة الفلسطينية لتحقيق كل المطالب المذكورة في المراحل الثلاثة.