العالم الحر..!

 

د. صالح الفهدي

تمنطق أنتوني بلينكن وزير خارجية أمريكا جيتاره في إحدى حانات العاصمة الأوكرانية كييف، وقال: العالم الحر يقف معكم فاطمئنوا، بعدها انخرط في عزف أُغنية"Rockin' in the Free World" وهي عبارة عن نشيد لموسيقى الروك عُزفت قبل سقوط جدار برلين!!

لقد رأينا العالم الحر بأوسعِ حدقة لأعيننا، ولكننا رأيناهُ مختلفاً عمَّا رآه بلينكن أو رئيسه بايدن، رأينا العالم الحر وهو يقمع التظاهرات التي اجتاحت أشهر الجامعات الغربية لطلبة مسالمين، وهم يندِّدون بالإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني في أبشع صورها، وأشنع وسائلها، حيث تقازمت أمامها سرديات غرف الغاز الهتلرية التي يتباكى عليها الصهاينة.

رأينا العالم الحر كيف يتعامل مع الجيل الغربي الذي خيِّم في حرم الجامعات احتجاجاً على استثماراتها مع الكيان الصهيوني، مطالبين بقطعِ هذه الاستثمارات، وإنهاء التعاقدات، وقد شاهدنا كيف تتصرف أمريكا (الديمقراطية) التي ترفع شعار (حقوق الإنسان) مع هؤلاء الطلبة والأستاذة الجامعيين العزَّل بالضرب، والركل، والدهس، والتقييد، والسحل، معبِّرة عن أوضح صور الديمقراطية، وأكثرها بشاعة. هذه الصور لو ظهرت في بلدٍ آخر لندَّد بها (العالم الحر) واعتبرها انتهاكاً للديمقراطية، واتهم حكامها بالديكاتورية، والبربرية!.

وبعد أن أوقظت جنوب أفريقيا محكمة العدلِ من سُباتها لتضع أمامها قضيةً هي من أكثر القضايا التاريخية ظلماً، وتعسفاً، ودمويةً لكيان غاصبٍ، محتلٍّ، تابعنا كيف أن جنوب أفريقيا التي انتفضت دفاعاً عن القضية الفلسطينية بعد أن ذاقت ويلات الفصل العنصري(الأبارتايد) وكيف أنها تلقت التهديدات من (العالم الحر)، الذي يدَّعي المساواة، ويندِّد بالعنصرية، ثم يعاقبها بقطع العلاقات التجارية لأنها تجرأت ودفعت بالقضية الفلسطينية العادلة لتوقف هذا التوحُّش الدموي الكاسح الذي فتك بأرواح الأطفال والنساء والرجال، ودمَّر البيوت، وأحرق الأراضي، في هيجان شيطاني متعجرف، خارج عن حدود العقل، والسيطرة!

رأينا العالم الحر وهو يهدِّد علانية المدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية دون أدنى اعتبار، وكأننا أمام فيلم (كابوي) أمريكي، وصورة الرجل الأمريكي المشهر مسدسه هي الطاغية في المشهد، حيث يشهر نوَّابه عريضة التهديد في وجه العالم مهددين المدعي العام الذي نام هو الآخر سبعة أشهر متسائلاً: إن كان ما يحدث في غزة يرقى لجريمة حرب، أم لا!! ومع أنه ساوى بين الضحية البريئة لشعبٍ أعزلٍ محتلٍّ، والجلاد وهو العدو الغاصب للأرض، المهجر للشعب، المبيد للأرواح البشرية دون تمييز، أقول: مع أنه ساوى بينهما في مقاربةٍ لا يقبلها منطق ولا عقل، إلا أن قائدة العالم الحر تثور ثائرتها، وتتوعد بمعاقبة الجنائية الدولية لأنها كسرت عصا الطاعة، ولم تخش تهديداتها الظاهرة والمعلنة لمدَّعيها العام وقضاتها رغم أن المحكمة لم تكن منصفةً حتى في قرارها!.

رأينا العالم الحر على لسان رئيسه بايدن وهو ينفي توصيف ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية"، ولا يرقى إلى "جريمة حرب" بعد كل الدمار الذي أودى بنصف قطاع غزة، وقتل الآلاف من الأبرياء.

رأينا العالم الحر وهو يُدين حماس في هجمات السابع من أكتوبر، متناسياً ما فعله الكيان الغاصب في خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال والقتل والدمار والتهجير القسري والإيذاء وتدنيس المقدسات الإسلامية واحتقار البشر.

رأينا العالم الحر وهو -على النقيض- يقفُ في حرب أوكرانيا ضد الروس الذين دافعوا عن حقوق الأقليات الروسية، ليحموهم من الأعمال العدائية في أوكرانيا، ويحموا العالم من المختبرات الخبيثة التي نشرت في العالم شتى أنواع الأمراض، ويردُّوا عن أنفسهم كيد الغرب الذي تعهد بعدم الزحف شرقاً، ثم رأينا العالم الحر كيف يصدر مذكرة القبض على الرئيس الروسي في ظرف أيام معدودة، بينما يقف العالم الحر مع نتنياهو في إبادته الجماعية مبرراً بحقه في الدفاع عن وطنه!

رأينا العالم الحر وهو يساهم في تصدير السلاح إلى الكيان المحتل لقتل الأبرياء من كل بلدان (العالم الحر) على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا أم الديمقراطية التي أصدرت حتى اللحظة مائة تصريح توريد سلاح إلى إسرائيل، بالإضافة إلى بلدان العالم الحر الأخرى من مثل كندا، وهولندا، وألمانيا، وفرنسا، وغيرها من بلدان العالم الحر التي لا تخجل أن تتحدث بلسان المجتمع الدولي، والعالم الحر، وترفع شعارات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية، والمساواة..!

رأينا بوضوح العالم الحر، وهو في الحقيقة ليس حُرَّاً بل هو عالم مغلول بقيود الصهيونية، مشلول بقراراتها، مسيَّر بإرادة إسرائيل التي بدأت مؤشرات انهياراتها واضحة بألسنةِ أهلها قبل غيرهم، وبالشواهد التي تتوالى أمام الأعين، عالم لا يعرف معنى الحرية ولا الديمقراطية ولا حقوق الإنسان ولا أية قيم إنسانية أُخرى، فليستبدل وصفاً آخر غير "العالم الحر" فقد رأى العالم بأسره ما هو المقصود بـ"العالم الحر".