ماجد المرهون
تهرع الأمم إلى المُستقبل سِراعًا في كسب العلوم والبحث والتطوير الصناعي والتقني ورأب صدوع الخلافات وسد ثغرات النعرات المُعطلة لجريان عجلة التَّقدم والتنمية، ورتق الفجوات التي تتسرب منها مثبطات التفوق والنجاح وردم منابع الفتنة والشقاق المفضية للتباغض والتشظي، وبالطبع لن يختلف على ذلك العاقل بعيد النظر المترفع عن السفاسف والواعي لمعنى الحياة الكريمة الآمنة في مجتمعه وبلاده، وقد تعضل بالجاهل قصير النظر المُتحدر للصغائر وطغيان أفكار الوصاية القديمة البالية حين يستبد به كِبر ذاته بإلغاء الآخر وبغي غرور نفسه على الصواب في تمسكه بموقفه الخاطئ لمجرد حادثةً ملفقة أو مريةٍ عقب فرية.
وبين فريق العاقل والجاهل تنشأ منطقة الشك الضبابية وغالبًا ما تكون حقولها خِصبةٌ للتدليس ونثر بذور التلبيس، بهدف تفكيك الكتلة الجماهيرية الصلبة من خلال اللعب على وتر الريبة واللا يقين بطعن المجتمع المستهدف في أغلى القيم الإنسانية التي يعتز بها ويتوارثها، وخلخلة نسيج أمنه واستقراره بمفترياتٍ لا أصل لها ولا إثبات سوى هتامات توهيم وشذرات إفتآت بائنٌ عوارها ساعة ظهورها، وعلى القابعين في تلك المنطقة الضبابية الاختيار إلى أي الفريقين ينحون.
لستُ هنا في معرض دفع ضرر بعوضةٍ سمينة حطَّت على جبل سلطنة عُمان المُطل بالتسامح على كل سهول السلام المُحيطة، ولستُ استجدي مشاعر الآخرين من حولنا في سردياتٍ تاريخية وتذكيرهم بمدى متانة العلاقات؛ كونها شؤون معلومة وأمور محسومة يعلمها الجميع بما فيهم الزاعجة الإلكترونية وما فوقها وما دونها إلّا من أنكر ذلك كِبرًا وغرورا، ولن أترفع عن ضرب المثل بها نظرًا لخطرها في نقل الأمراض بين من لا يُحسن التعامل معها علميًا وعمليًا، كما أني لست بصدد الالتفات لكُتبٍ تاريخية عن المذهبية والطائفية المقيتة التي يدفع بها مؤلفوها مظلوميتهم القديمة عن أنفسهم من ثغرة الأمانة العلمية المخادعة ثم توزيعها مجانًا كالواهب نفسه بين قوافل الحجاج أو المتصدقِ بالماء في جموع الحجيج.
إنما أحاول في هذا السياق تنبيه الوسنانِ لما يُحاك حوله من كذبٍ وبُهتان، وتحذير الغافي والساهد من مشتتات الأخبار والصور والمشاهد، ومن مغبة الانسياق وراء المحركات الخبيثة الهادفة لكسر بُنية التماسك الأخوي والثقافي والعقدي بين مجتمعات المنطقة العربية، ومحاولات إحداث شقوق خلافٍ صغيرة مُتشاكسة تتحول إلى شروخٍ كبيرة متعاكسة تودي للخصومة والعداوة بإلباس شبام الحق البائن بسعير الباطل الباطن وتأجيج أواره بالنفخ فيه لإطالة أمده والتصدي لكل محاولات نزع فتيلهِ، وبما أنَّ منصات التواصل باتت تُشكل واقعًا مجتمعيًا فإنها سوف تعكس بالتأكيد صورة نمطية عن وعي ونضج كل مجتمع من خلال ما يصدر عن أفراده من مشاركات، كما ستنشأ في تلك المنصات بيئاتٍ منتنةٍ تعتاش عليها بعض المخلوقات القمَّامة وتتكسب منها، وإنه لمن دواعي سرورها أن تبقى مستنقعاتها مزدهرةٍ متولدة؛ بل ستسعى جاهدةً لإشاعة مغذيات تعظيمها ومدعمات اتساعها وبقائها.
نُلاحظ بين الحين والآخر كما لاحظنا مؤخرًا بعض المُعرفات القمَّامة والمسميات السامة والعناوين النمامة في مواقع التواصل الاجتماعي من التي تكسب قوت يومها باستثارة الفتن وتتربح على اللغو والطعن في المُثل العُليا والقِيم الثابتة والأصيلة للعمانيين، والحقيقة أنها لا تهمنا كثيرًا ولا تعنينا جدًا محاججتها بقدر ما يعنينا كشف أساليب خداعها وطرق مكرها وآليات حيلها، فهي تظهر عندما تجس قرون استشعارها وتيرة السلطنة الثابتة على مبدأ الحق تحقق نجاحًا تلو الآخر وتقدمًا مُستمرًا داخليًا وخارجيًا مع الجميع ومواصلة الجمع بين الفرقاء والتوفيق بين المتخاصمين دون خللٍ في ميزان التفاهم والمنافع أو تغليب كفة على أخرى، وهذا بالضرورة يغيض الفواسق المُتصيدة في غرف الظلام لتبدأ موسمها الجديد بأساليب التمويه والتنكر التي باتت معلومة ومكشوفة لدينا ولدى كل من يعرف ولو قليلًا عن النهج العماني القويم، وعلى كُل حال فإن فواسق المعرفات الخبيثة والمُسميات الهدامة جيدةٍ أحيانًا للحفاظ على التوازن الطبيعي في منصات التواصل حيث تُمكننا من إجراء التحديثات اللازمة لفهمها والإحاطة بها وبمقاصدها، كما تعطينا حافزًا إضافيًا لنشر حملة وعيٍ وطنيٍ لرصدها.
يميل الإنسان في حالة عدم توفر مساندة يقينية لأمرٍ ما إلى التصديق الساذج وهو نوع من التنميط الذي جُبل عليه، وتتخذ هذه النمطية احتمالين زائفين وهما خطأه السلبي الذي لا يجد له تفسيرًا كالإهمال وخطأه الإيجابي الذي لا يقبل تفسيره كالإخفاق وفي واقع الأمر لا نتائج حتمية مباشرة لهذين النمطين، ولكن يُريد عقله تصديق شيءٍ ما يصطنع منه لنفسه قاعدةً اساسية لتمضي قناعته قُدمًا في البناء عليها، فينتج له من الخطأ السلبي الزائف مايعرف بالخرافة والخيال ومن الخطأ الإيجابي الزائف الشك والريبة ولكن غالبًا ما تنتصر فكرة تصديق الخرافة والخيال حتى تصبح واقعًا، وهذه من الألاعيب التي يتخذها بعض المُضللين للحقائق ويعضدونها بانتحال أحداثٍ وقصصٍ كاذبة ولكنها تنطلي على بعض العقول الراضخة للتنميط.
نعيش اليوم في عالمٍ مشحونٍ بكمٍ هائلٍ من المعلومات وحري بنا أن نكون قد اكتسبنا حصانة معرفية كافية تؤهلنا لعدم تصديق كل شيء من مصادرٍ غير موثوقة أو أجنبية مُدلسة، أو على الأقل البقاء في حالة الساكن المتوجس من المخططات الرقطاء التي تسعى بوجوم إلى زعزعة عقيدتنا الوطنية المستقرة وتشويه صورتها خارجيًا حتى يتبين نبأ الفاسق، وسيتبين قريبًا أو بعد حينٍ غير بعيد ومن أصابنا بجهالته فذلك شأنه وآمل أن يصبح من النادمين، ومن الأسلم درء المفسدة باتخاذ وضع السكوت في حالات تعمد إشاعة الفتنة قبل جلب المنفعة بالرد دون بينة و"إن لله عبادًا يميتون الباطل بهجره، ويحيون الحق بذكره" مقولةً لا تزال تعمل وهي صالحة لكل زمان، ولعلها أكثر صلاحية في زماننا هذا مع متربصي الغباء الاصطناعي الكامنين وراء الحجب بمجتمعنا المتصالح مع ذاته ومع غيره.