د. عبدالله الأشعل **
ظهرت اتجاهات باطلة خلال حملة الإبادة الإسرائيلية على غزة التي قاربت تسعة أشهر. الاتجاه الأول تَزَعَّمه وزارء الخارجية العرب حين أصدروا بيانات فى بداية الحرب مُطالبين فيها بالتسوية بين المدنيين من الجانبيين المتصارعين، أي إسرائيل والمقاومة، وهذا المطلب يصح في الظروف العادية، لكن لا يستقيم مع طبيعة إسرائيل؛ حيث إنها تجمُّع لصهاينة للاستيلاء على فلسطين.
والفكرة الصهيونية أساسًا فكرة إجرامية تنطوي على الكثير من الجرائم؛ منها إبادة أهل فلسطين وإذلالهم وحصارهم وتجويعهم، وإطلاق وصف الإرهاب على مقاومتهم، وللأسف استجاب حكام عرب- بسبب علاقاتهم مع الولايات المتحدة- إلى هذه الرواية فقرروا في الجامعة العربية أن المقاومة إرهاب صريح، وما دامت الدولة مُلتزمة بمكافحة الإرهاب، فإن المنطق يقضي بمساندة إسرائيل والقضاء عليه، وطبيعي أن اللص يرى في مقاومة صاحب البيت، عقبة فى سبيل تحقيق أهدافه غير المشروعة. ولم يحدث في التاريخ أن رحَّب اللص بمقاومة صاحب المنزل. والتسوية المطلوبة التي قصدها وزراء الخارجية العرب هي بين سكان إسرائيل وسكان فلسطين العربية، علمًا بأن سكان فلسطين العربية هم أصحاب الأرض، أما سكان إسرائيل فهم عصابة من المُستعمِرِين الذين استدرجهم المشروع الصهيوني الذي زعم أن الصهاينة ملكوا فلسطين في الماضي وأن المطلوب هو استرداد الأرض وقتل المُعتدين أصحاب الأرض الأصليين!! وغيرها من الأكاذيب والمزاعم التى حفل بها المشروع الصهيوني، ثم إن الوزراء العرب تجاهلوا حقيقة ساطعة وهي أن الصراع العسكري ليس بين المقاومة وإسرائيل، وإنما بين عموم سكان فلسطين العرب تتقدمهم المقاومة، والمقاومة هي سيف الشعب الفلسطيني الذى لديه جيش؛ فالتمييز الذى قصده الوزراء العرب بين المدني والعسكري وبين الأهداف المدنية والعسكرية صورةٌ لا أصل لها في الواقع الفلسطيني، لأن كل سكان إسرائيل مسلحون، وكُلهم أعضاء فى العصابة، لذلك وجب قتالهم وطردهم.
الاتجاه الثاني تمثل في أن كريم خان المدّعى العام في المحكمة الجنائية الدولية يعتبر كلًا من المقاومة وقيادات إسرائيل مجرمين محتملين، ولذلك طلب من المحكمة أن تُصدِر قرارات بالقبض عليهم والتسوية بين المجرم والضحية، وبذلك تجاهل خان أن المقاومة ورجالها يتمتعون بالحصانة في القانون الدولي، وإذا كانت محكمته يغلب عليها الطابع السياسي ولهذا السبب قرّر الاتحاد الأفريقي الانسحاب منها، يكون التشديد على حصانة المقاومة ضد هذا الطلب واجبًا، وقد خصصنا هذه المقالة لبيان الأسس القانونية لحصانة المقاومة والحق في المقاومة، والحق كذلك في استخدام القوة المسلحة استثناءً من الحظر المعروف على استخدام القوة والتهديد بها في العلاقات الدولية، يضاف إلى ذلك أن المقاومة من حقها استخدام كافة الوسائل وهي في حالة دائمة من الدفاع الشرعي عن نفسها وعن شعبها.
الحق في مقاومة العدوان والاحتلال والاستعمار ثابت في القانون الدولي ضد هذه الفئات المُعتدية، لكن الصهيونية فاقت كافة الصور؛ لأنها حركة إجرامية تهدف إلى تفريغ الأرض من أهلها والحلول محلهم بأكاذيب ومزاعم مختلفة. والصهاينة في فلسطين لا علاقة لهم بأي شرع أو دين، وإنما يحاولون تبرير جرائمهم بأنهم يهود، ولو كانوا يهودًا حقًا لالتزموا بشريعتهم التي تجعل النفس البشرية أقدس من المسجد الحرام، لكنهم اتبعوا الكتاب المُقدَّس المُزوَّر حسب أهوائهم. والغريب أن الحاخام الأكبر فى إسرائيل يزعم أن اليهودية في خدمة الصهيونية، علمًا بأن اليهودية شريعة إلهية، أما الصهيونية فهي مشروع سياسي إجرامي، أخطر من الاحتلال والاستعمار معًا؛ فالاحتلال والاستعمار لا يدعيان ضد أراضي الكيانات المستعمرة أو الكيانات المحتلة، لكن الصهيونية تدّعي أن الصهاينة ملكوا فلسطين منذ آلاف السنيين وأن قتل السكان مشروع ما داموا يستردون حقهم من المعتدين! لذلك لا تُسمي إسرائيل المناطق من فلسطين خارج قرار التقسيم احتلالًا، وإنما تُسميه استردادًا. أما السكان فيجب إبادتهم بكل صور الإبادة الانتقامية، والدليل على تزييف توراتهم أنها تدعو إلى قتل الأغيار، أي غير الصهاينة، أما اليهودي الحق فلا يعترف بالصهيونية ويعتبرها جريمة في التوراه.
والحق في المقاومة مرتبط بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وسوف أُسجِّل فى نهاية المقالة بعض المراجع الرصينة التي تُقِر بذلك؛ فأعمال المقاومة مشروعة ولا يمكن أن تكون إرهابًا، والإرهاب الحقيقي هو أداة الصهاينة في اغتصاب فلسطين ويترتب على ذلك النتائج الآتية:
1- أن المقاومة حركة تحرر وطنى تعتصم بحماية القانون الدولي في الملحق الأول لاتفاقات جنيف.
2- بطلان اعتقال ومحاكمة رجال المقاومة.
3- عدم اختصاص المحاكم الإسرائيلية لأنها محاكم صهيونية تنخرط فى عمليات الإبادة للسكان، ولذلك لم يتورع أهارون باراك كبير القضاة في إسرائيل عن أن يعترف في أحكامه بشرعية أعمال الإبادة، والغريب أن هذا القاضي قبلته محكمة العدل الدولية؛ باعتباره يمثل إسرائيل في القضية التى رفعتها جنوب إفريقيا في ديسمبر 2023، وكان يتعين على محكمة العدل الدولية أن ترفض تعيينه، لولا أن نظامها الاساسي لا يُعطيها هذا الاختصاص. وتعيين إسرائيل لباراك في هذه القضية أنصع دليل على عزمها على الاعتراف بأن الإبادة حق مشروع، ما دامت العصابة تدافع عن نفسها ضد أصحاب الأرض، علمًا بأن هذا المُغتَصِب الصهيوني لا حقوق له في القانون الدولي، والطريف أن إسرائيل تُخادع القانون الدولى وتعتبر الأراضي التى احتلتها خارج قرار التقسيم استردادًا في نظرها، بينما المجتمع الدولي يعتبرها أراضٍ محتلة وأن إسرائيل سُلطة احتلال، وهذه النظرة تخفيف في الواقع الإسرائيلي.
4- يجب القبض على الجُناة الإسرائيليين، ولا يمكنهم التمسُّك بالحصانة التي قررتها محكمة العدل الدولية لكبار المسؤوليين في الدولة مثل رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حتى لو ارتكبوا جرائم خطيرة؛ كجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ويجب أن نميِّز بين الجُناة الإسرائيليين والجُناة في القضايا التي فصلت فيها محكمة العدل الدولية؛ فالصهيونية لا مثيل لها.
5- المقاومة بصفتها حركة تحرر وطني تتمتع بخصائص الشخص القانوني الدولي، وتتمتع بالحصانة في نظرنا، ما دامت وظيفتها نبيلة وما دام القانون الدولي أسَّس الحصانة على نظرية الوظيفة، ومن هذا المنطلق تبطُل حصانة المسؤولين الإسرائيليين لأنهم يزعمون أنهم أقاموا دولة، بينما الدول تقوم على أسس سلمية.
6- تبطُل عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة؛ لسببين: الأول عدم وفاء إسرائيل بالشروط الثلاثة لقرار عضويتها رقم 237. والسبب الثاني هو أن سلوكها في ملحمة غزة يقطع بسقوط شروط العضوية في المادة الرابعة من الميثاق، ثم إن إسرائيل تقوم على الإرهاب والإبادة وتفتقر إلى الشرعية القانونية.
7- يبطُل استخدام القوة ضد المقاومين؛ لذلك فإنَّ إعلان إسرائيل القضاء على المقاومة يمثل دليلًا على الجُرم المشهود، خاصةً وأنها في سبيل القضاء على المقاومة تُبيد السكان المدنيين.
8- كان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2625 لعام 1970 صريحًا بالاعتراف بحق المقاومة لكل الشعوب الخاضعة للهيمنة الأجنبية أيًا كانت صورتها.
9- العُرف الدولى يعترف بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة وصولًا إلى حق تقرير المصير.
الخلاصة.. إن طلب المدعي العام للمحكمة القبض على زعماء المقاومة باطل لسببين؛ الأول حصانتهم في القانون الدولي، كما أوضحنا. والثاني أن المدعي العام لم تُقدَّم إليه تقارير ضد المقاومة، ويكون طلبه انتهاكًا للوائح المحكمة وتجاوزاً لحدوده في تحريك الدعوى في ميثاق روما، وفقًا للمادة 13 من الميثاق.
** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا