علي بن مسعود المعشني
عرف صراعُنا مع الكيان الصهيوني محطات مُختلفة، وتنقَّل وسط بيئات وجغرافيات مُختلفة كذلك، وشهد مواجهات متفاوتة في القوة والمدد الزمنية، لكنه لم يتوقف ولم تفتر المقاومة يومًا، رغم الالتفاف على انتصاراتها بفعل قوة العدو ورُعاته، وضعف ووهن وشتات النظام الرسمي العربي.
وفي المُجمَل، فإنَّ المؤشر التراكمي للصراع في صعود من الجانب العربي، وفي انحطاط واضح من الجانب الصهيوني.
وفي الحروب والمواجهات السابقة كان العدو ورعاته يرممون الخسائر ويجبرون الضرر المادي والمعنوي سريعًا، ويعبثون بالانتصارات العسكرية العربية ويحولونها إلى هزائم سياسية نكراء، من وزن "كامب ديفيد" و"وادي عربة" و"أوسلو"؛ لأنَّ الطرف الآخر والمتمثل في النظام الرسمي العربي، لا حول له ولا قوة؛ حيث سوَّق نفسه كتابع للغرب، وسكب الغرب في ذهنيته كقضاء وقدر لا يُرد ولا يُهزم، كما تقبَّل سرديات الكيان الصهيوني، وأعاد إنتاجها في وعيه كقوة لا تُقهر، ولم يتوقف عند ذلك؛ بل بدأ في تأليف سرديات واهية تصف حالة فلسطين التاريخية، وتصف "أحقية اليهود ووجودهم التاريخي" على أرض العرب... إلخ، وكان كل هذا تحت عنوان مُقتضيات "الواقعية" السياسية و"العقلانية" العربية.
لهذا تغوَّل العدو في المنطقة بفعل الدعم السخي من رعاته الغرب، وبفعل الوهن السخي من النظام الرسمي العربي، والذي لم يكتفِ ببلع هزائمه من الصهاينة؛ بل سوق لهم وعمل جاهدًا على إدماجهم في الجسد العربي، ومنحهم الحق العربي بذريعة الواقعية.
بعد هزيمة العدو في مواجهاته مع فصائل المقاومة اللبنانية وعلى رأسها حزب الله عامي 2000 و2006، سقطت نظرية الردع الصهيوني وتعادلت كفتا الردع والوجع بين الطرفين، وانفردت فصائل المقاومة بتقاسم النصر السياسي ونِتاج تلك المواجهات، بمعزلٍ عن النظام الرسمي العربي، وتقبلها العدو ورعاته مُكرهين كشركاء في الأزمات، وأطراف تفاوض عبر الوسطاء.
هنا أدرك العدو ورعاته أن واقعًا عربيًا جديدًا دخل على المعادلة وفرض نفسه بقوة السلاح وتمثل في فصائل المقاومة، فقرَّر البحث عن استراتيجية جديدة للتموْضُع.
كان الخيار الاستراتيجي للكيان الصهيوني ورعاته بعد تلك الهزائم العسكرية النكراء من فصائل المقاومة، وثبوت عجز النظام الرسمي العربي عن كبحها، أو السيطرة عليها، أو مُواجهتها، تسويقَ العدو ككيان صناعي اقتصادي عملاق في المنطقة، ومتفرد في التقنيات والبرامج الأمنية، وذلك بقصد تمرير التطبيع والشراكات والتعاون مع الأقطار العربية المُطبعة وتبادل المنافع تلك معها.
إذ يصل دخل الكيان الصهيوني السنوي حاليًا إلى 520 مليار دولار، منها 14 مليار عائد تصديره للبرمجيات الأمنية الإلكترونية لعدد من الدول حول العالم، ويطمح الكيان إلى مضاعفة الدخل عبر فتح أسواق جديدة في جغرافيات مختلفة، وعلى رأس أولوياته التطبيع مع عدد من الأقطار العربية بضغوط من أمريكا والغرب.
كما إن الكيان سوَّق نفسه للعالم طيلة العقود الماضية ككيان استيطاني آمن للسكن والاستثمار، مُعتمدًا على سجل انتصاراته على النُظم الرسمية العربية عسكريًا أو سياسيًا، وعلى سرديته كضحية تاريخية مُحاطة ببحر من العداء والكراهية من قبل العرب.
لكن يأتي "طوفان الأقصى" اليوم ليُبدِّد حلم الكيان الصهيوني ورعاته والمراهنين على قواه المتعددة "الخارقة"- كما يزعمون- ليجعل من استراتيجية الكيان الثانية والبديلة للمواجهة والردع العسكرية أكذوبة كبرى؛ حيث هُزم الكيان عسكريًا واقتصاديًا واستخباراتيًا وعقليًا منذ الساعات الأولى للطوفان، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، وتعرضت كل جغرافيته للقصف من قبل فصائل المقاومة ومن الجغرافيات المختلفة في غزة ولبنان والعراق واليمن، فتبدَّد الحلم الأخير للكيان، وتبدَّدت معه سرديات لا حصر لها، ولم يعد يَلُوحُ لهم من خيار سوى الزوال والرحيل؛ فالطوفان قد عصف بكل شيء على الأرض وبداخل العقول كذلك.
قبل اللقاء.. حذَّر مؤسس الكيان ديفيد بن جوريون بقوله: إن هزيمة "إسرائيل" في حرب واحدة كفيلة بزوالها. (فكم حرب هُزمت بها منذ رحيل بن جوريون؟!).
وبالشكر تدوم النعم.