د. صالح الفهدي
كان أبو عامر محمد بن أبي عامر، حمَّارًا، ينقلُ البضائع للناسِ على حِماره، فقال ذات يومٍ لصاحبيه الحمَّارَين: ما أُمنياتكما التي تريدانها مني إن أصبحت في يوم من الأيام خليفة المسلمين في الأندلس؟ فقال الأول: أتمنى منك كذا وكذا وعدَّد له ما يطلبه من الأموال وغيرها وأن يجعله رئيسًا للحمَّارين، أمَّا الثاني: فضحك وسخر منه وقال: أنتَ حمَّارٌ فكيف يصبحُ الحمَّار خليفة للمسلمين، وأضاف هازئًا: إن أصبحت خليفةً فأركبني حمارًا واجعل وجهي إلى قفاه ونادي عليَّ في المدينة وأنت تدور بي!
دارت الأيام وأصبح أبوعامر محمد بن أبي عامر حاكمًا للدولة العامرية في الأندلس يكنَّى بالحاجب المنصور، فتذكَّرَ صاحبيه الحمَّارين وطلبهما إلى القصر، وسألهما عن أمنياتهما قبل ثلاثين عامًا، فقال الأول دون تردُّدٍ ما تمنَّى من الأموال وغيرها، فأمر له بها، فيما تردَّد الثاني بما تمنَّى فأصرَّ عليه الحاجب المنصور الذي كان حمَّارًا مثله، فقال عن خوفٍ وتردُّد ما تمنَّى في أن يُركبه حمارًا على قفاه وينادى به في الأسواق، وهكذا أمرَ له الحاجب المنصور!
وذكرَ لي أحد الأصدقاء الكويتيين قصَّةً؛ حيث يقول: في الإجازة الصيفية للمدارس وكنتُ لا أزالُ حينها طالبًا في المدرسة، اقترحتُ على والدي أن أستغلَّ الباص لنقل العمالة الوافدة إلى إحدى القواعد العسكرية؛ حيث يعملون هناك في مختلف المِهن، وحين اقتربتُ من بوابة القاعدة العسكرية سخرَ منِّي الجنديَّانِ اللذان كان يحرسانِ البوابة، ورفضا دخولي من المنفذ، وعاملاني باستهزاءٍ وقسوة، وطلبا أن أتجه إلى بوابة بعيدةٍ، وكان حديثهما إليَّ فيه من الهزء والسخرية ما آلَمَ نفسي، ثم دارت الأيام وتخرَّجتُ من المدرسة، واتجهت إلى الترشيح وأصبحتُ ضابطًا، ثم تدرجتُ في الرُّتب العسكرية حتى أصبحتُ قائدًا للقاعدة نفسها التي يحرسُ فيهما الجنديان! وهناك طلبتُ أن يؤتى بالباص خارج البوابة ويوقَف بمسافةٍ منها، فاتجهتُ إليه ولبستُ ملابس أقرب إلى تلك الملابس التي لبستها يوم أن كنتُ طالبًا أسوق الباص، فقد كنت أعلم أن الحرَّاس لا زالوا هُم أنفسهم، فلما اقتربتُ بالباص من حاجز البوابة، سألتُ الحرَّاس: هل تعرفون صاحبَ هذا الوجه؟ تفرَّس الجند وجهي، وأدُّوا لي التحيَّة، وتذكروا الموقف القديم، وبدأوا بالتأسف والاعتذار مني، وعندها ألقيتُ عليهم نصائح فحواها أنَّ الكلمات والمواقف تبقى في ذاكرة الإنسان، وأنَّ عليهم أن يُحسنوا الكلمات والمواقف دائمًا ليبقى ذكرهم الطيب في نفس الإنسان يذكرهم به بامتنان وعرفان.
الكلمات والمواقف التي تبدُر من إنسانٍ نحو إنسانٍ آخر لا تكادُ تُنسى، أكانت حسنة أم سيئة، مُفرحةً أم مُحزنة، محفِّزةً أم مُحبطة، فمهما طالت الآماد، وتوالت السنون ستظلُّ الكلمات والمواقف راسخة في نفس الشخص الذي قُصِدَ بها، ومن ذلك أن أحد الناس قال لي: أنَّ فُلانًا ألقى عليَّ كلمة مؤلمةً منذ أربعين عامًا لم أنسها، بل أن صداها لازال في نفسي!.
وفي ذات السياق قالَ أحدهم لصاحبٍ له: أنتَ متكبِّر!، فردَّ الآخر عليه لاحقًا في أبياتٍ شعريةٍ، يقول في مطلعها:
لا لستُ بالعاصي ولا المتنطِّعِ
أَبدًا ولستُ بصاحبٍ ذي مطمعِ
لا أعرفُ الكِبْرَ الذي تصفونهُ
قسمًا، وأحلفُ أَنني لم أدَّعِ
بين النزاهةِ والتكبُّرِ عالمٌ
أَبعادُهُ مثل الفضاءِ الأَوسعِ
حتى يقول في قصيدته:
إني لأسبل للكرامةِ سترها
حتى وإن طَرَقَ التنكُّرُ مسمعي
لي مذهبٌ حرٌّ يصونُ نزاهتي
وفضيلتي وأعيشُ غيرَ مقنَّعي
وأذكرُ أنَّ أحدهم كانَ مسؤولًا في إحدى الوزارات عن موظَّفٍ وكان يعاملهُ معاملةً فظَّةً قاسية، فلمَّا خرجَ ذلك الموظف، ترشَّحَ لمجلس تشريعي، ثم جاءه الحظُّ فعيِّنَ وزيرًا في الوزارة نفسها، حينها طلبَ ذلك المسؤول التقاعدَ فورًا، ولو كانت مواقفه حسنة مع موظفه لأكرمه الموظف الذي أصبح وزيره، ولكنه خشي أن ينتقم منه، فقرر أن يفرَّ بنفسه، بغضِّ النظر عن ما سيقابلهُ به موظفه الوزير!
الشاهدُ أن الأيام دُول، وأنَّ كلماتك ومواقفك ستذكرُ لك أـو عليك، فإن كانت لك ذُكرتَ بخيرٍ، وإن كانت عليك ذُكرتَ بسوء، أنتَ حَكم نفسك، وأنتَ معلمها، فاختر لنفسك ما تودُّ أن تلقاه، وتسمعهُ.