حاتم الطائي
◄ "طوفان الأقصى" أطلق حملة وعي حقيقية بعدالة القضية الفلسطينية
◄ انتصارات استراتيجية غير مسبوقة للمقاومة مع بدء التفكك الإسرائيلي
◄ الاعتراف الأوروبي بفلسطين وقرارات "محكمة العدل" و"الجنائية" تصيب إسرائيل بالجنون
الانهيار المُؤكد والزوال الحتمي لدولة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية، لم يعُد محل جدال أو مُجرد تنبؤات تستقرئ الواقع وتستشرف المُستقبل؛ بل أصبح الأمر مفروغًا منه، بعد "طوفان الأقصى" الذي زلزل الكيان المُحتل وهزَّ أركانه وخلخل مفاصله، عسكريًا وسياسيًا، فضلًا عن نسف المزاعم والأكاذيب التي ظل يُرددها، عن "الجيش الذي لا يُقهر" و"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، لتتعرى حقيقته أمام العالم أجمع، ويُدرك القاصي والداني حجم المذابح الدموية التي يرتبكها يوميًا منذ أكثر من 7 أشهر، في أعنف حرب إبادة عرفتها البشرية في العصر الحديث.
"طوفان الأقصى" نجح في تشكيل عالمٍ جديدٍ، ووعي حقيقي بقضية فلسطين، فلم يعد غريبًا أن نرى مظاهرات الدعم والتأييد تجوب أنحاء أوروبا وأمريكا وآسيا، تُندد بالمذابح الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، وتطالب بوقف فوري لحرب الإبادة؛ بل ومُحاسبة مُجرمي هذه الحرب. "الطوفان" أعاد تشكيل الوعي الغربي بالتأكيد على أحقية الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، والحصول على كامل حقوقه دون نقصان.
هذه الانتصارات المُتتالية للقضية الفلسطينية، تجاوزت الأهداف التي كانت مرجوة في بداية "طوفان الأقصى"؛ سواء من حيث الإفراج عن الأسرى أو استجداء مفاوضات سلام مع عدوٍ مجرمٍ كريهٍ، أصبح منبوذًا وغير مُرحّب به في العديد من دول العالم، لتتحول هذه الانتصارات إلى مُنجزات فعلية على أرض الواقع، لم يكن يتوقعها أحد، وأبرز هذه الانتصارات:
أولًا: تحقيق انتصارات استراتيجية غير مسبوقة للمقاومة، عكست مدى الجاهزية التي تتمتع بها فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، وقدرتها على دك حصون العدو الإسرائيلي رغم ما يملكه من منظومات دفاع جوي صاروخي متقدمة، إلّا أن هذه المنظومات خارت قواها أمام الرشقات الصاروخية التي تُمطر المقاومة بها مدن الاحتلال، وتدفع الإسرائيليين إلى الهرب والاختباء في الملاجئ. علاوة على سقوط أكثر من 600 قتيل في صفوف جيش الاحتلال وآلاف المصابين، حسب الأرقام الرسمية، رغم أن الأرقام الحقيقية، وحسب التقديرات العسكرية، من المؤكد أنها تمثل ضعف أو ضعفي هذه الأرقام المُعلنة.
ورغم الدمار الهائل الذي سببته آلة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة وسط مزاعم بالقضاء على عدد كبير من كتائب وأفراد المُقاومة، إلّا أن المقاومة باغتت الاحتلال ونجحت في شن هجمات صاروخية من مناطق يزعم الاحتلال أنَّه يُسيطر عليها في قطاع غزة.
هذا النصر الاستراتيجي للمقاومة تعدى تمامًا مسألة الردع والجاهزية العسكرية لمواجهة الاحتلال؛ لتتحول المقاومة إلى ندٍ قوي وشرس قادر على مواجهة القوى العظمى التي تحارب إلى جانب الاحتلال، فإسرائيل لا تُحارب بمفردها، وإلّا لكانت النهاية في عصر يوم السابع من أكتوبر 2023، لكنها تحظى بدعم غير مسبوق من أمريكا والغرب؛ سواء بالسلاح الفتّاك أو المعدات القتالية المُدمِّرة، أو بالأفراد، فالوقائع تُبرهن على وجود قوات أجنبية ومُرتزقة يقاتلون في صفوف العدو الإسرائيلي. لكن ورغم عدم التكافؤ هذا، إلّا أن المقاومة ما تزال تُكبّد الاحتلال خسائر فادحة.
ثانيًا: الاعتراف الثلاثي الأوروبي من أسبانيا وأيرلندا والنرويج، بدولة فلسطين، وهي الخطوة التي أصابت نتنياهو وعصابته الإرهابية بالجنون، وفجّرت الغضب في صفوف مجلس الحرب والعدوان، دفع بدولة الاحتلال لاتخاذ إجراءات دبلوماسية ضد هذه الدول. ومنبع هذا الغضب أنَّ الاحتلال لا يريد نهائيًا إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولا ينشد أي سلام مع أي طرف؛ بل يُخطط فقط لاغتصاب كامل الأرض الفلسطينية وتحويلها إلى مستوطنات، خاصة وأنه الآن عاد بالزمن لسنوات وعقود طويلة، بعد أن احتل مُجددًا معبر رفح من الجانب الفلسطيني، ونشر قواته العسكرية في مناطق عدة من غزة، علاوة على احتلاله الفعلي للضفة الغربية، ما يُؤكد أنَّه بات الآن يحتل تقريبًا كامل فلسطين التاريخية. ومن ثم فإن أي اعتراف أوروبي- أو غربي عمومًا- بدولة فلسطين يمثل طعنة قوية للاحتلال، وينسف مُخططاته وحلمه بإقامة ما يُسمى بـ"إسرائيل الكبرى" في إطار مخططه الاستعماري "من النيل إلى الفرات".
ثانيًا: قرارات محكمة العدل الدولية سواء القرار الأول الذي صدر في يناير الماضي، والقاضي بإلزام إسرائيل باتخاذ تدابير لمنع الإبادة الجماعية في غزة، أو القرار الثاني الصادر أمس الأول وتأمر فيه المحكمة دولة الاحتلال بوقف الهجوم العسكري على مدينة رفح الفلسطينية وفتح المعبر لإدخال المساعدات الإنسانية، إلى جانب "اتخاذ التدابير اللازمة لضمان وصول المحققين دون عوائق إلى غزة"، بهدف الحفاظ على الأدلة الجنائية في سياق المحاكمة التاريخية لإسرائيل أمام هذه المحكمة الدولية، ما يؤكد مُجددًا أنَّ إسرائيل باتت مُدانة بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
ثالثًا: طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، وهي الصفعة التي لطمت وجه إسرائيل، وفضحتها أمام العالم أجمع، لتتعمق عُزلة هذا الكيان اللقيط، وتتكشف سوءاته القبيحة في كل مكان.
رابعًا: عالم جديد يتشكل بعد "طوفان الأقصى"، وهذا العالم يقوده الشرفاء في كل مكان، حتى في عقر دار الدول الراعية والداعمة لإسرائيل ومذابحها في غزة. والعالم الجديد الذي نشير إليه هو عالم الأحرار الذين انتفضوا نصرة لفلسطين في واشنطن ولندن ومدريد وبرشلونة وبرلين وطوكيو وباريس وأثينا ونيويورك وروتردام ولايدن ودينهاخ وخروننغن في هولندا، وغيرها من المدن حول العالم.
لا ريب أن هناك خاسرين ورابحين في أي معركة، لكن الرابح الحقيقي من يقرأ التاريخ قراءة متأنية ويُدرك أن كيانات مثل إسرائيل لا مُستقبل لها في المنطقة العربية، فكما قال المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي "هؤلاء الصهاينة ستبتلعهم الصحراء العربية"، فإنَّ جميع التحليلات والقراءات تؤكد هذه الحتمية التاريخية.
ويبقى القول.. إنَّ دولة الاحتلال ستزول آجلًا أو عاجلًا، لكن المُفاجأة الكبرى أن انهيارها يبدأ من الداخل قبل الخارج، بفضل "طوفان الأقصى" والعمليات النوعية للمُقاومة، والتي ألّبت الرأي العام الإسرائيلي على زعمائه السياسيين وقادته العسكريين؛ بل وتسببت في شق صفوفهم وانقسامهم على أنفسهم، ولا يُخالطنا شك في أن حكومة نتنياهو لن تصمد أبدًا، لأن انهيارها بدأ قبل أكثر من 7 أشهر، وتفكُّك إسرائيل يجري منذ ذلك الحين، وسنرى بأعيينا زوال هذا الكيان قريبًا جدًا.