سارة بنت علي البريكية
غارات، وقصف تلو الآخر، المدينة الحالمة على الضفاف البعيدة عن الضوضاء، السارحة في عيون الأطفال والأبرياء، الحزينة بصمت، تُقصَفُ الآن ويتغيَّر لونُها الأبيض إلى لون الدماء أحمر وأسود؛ فالسَّوَاد هو لون الدُّخان الأسود المتطاير الذي نَرَاه باستمرار في سمائها. أما اللون الأحمر هو دماء الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة.
من كان يتوقع يومًا أن تعود الحرب بعد فترة من السلام والحب، نرى حربًا، ونرى شهداء، ونرى بني إسرائيل الذين نقرَأ عنهم بأنهم فعلًا أناس سيِّئون، هم فعلا أسوأ من السيئ، وقد تخطوا مرحلة أنهم وحوش تمشي على الأرض، وهم لا قلب لهم ولا مشاعر ولا أحاسيس، فمن كان يملك ذرة من إحساس الحب لن نراه يقوم بهذه الأفعال السيئة والقاسية التي وضعوا فيها الشعب الفلسطيني الأبي.
إنَّنا ومنذ دخول الحرب من أكتوبر الماضي، ونعيش حربًا أخرى مع أولئك الذين اعتقدنا أنهم لن يتخلُّوا عنا ولن يتركونا ولن يستغنوا عنا، وإنما هذا الذي حصل، فكل أولئك العربيين الذين ظننا أنهم معنا كانوا ضدنا وبقوة.
لم يقف أحد مع القضية الفلسطينية إلا بالكلمات الصادقة التي تخرج من أفواه الأنقياء، أما الأفعال فكلها ليست سوى مجرد محاولات بائسة؛ فمعاهدات السلام انتهت، وتبادل الأسرى والهدن وغيرها الكثير هي مجرد تمثيلية غبية لم تعد تُجْدِي نفعًا.
الليل يُصبح مشابهًا للنهار، والنهار كالليل، والأيام تمضي على مَضَض بين قتيل وجريح وشهيد ومريض، وبين جائع ومصاب بالجفاف، وبين الخوف والموت والاضطراب والألم والندم والترجِّي والانتظار الطويل الذي لم ينتهِ ولم يعد سوى انتظارات متتالية فقط.
ليس بالضرورة أن يكون لدينا جناح كي نطير إلى مكان آمن؛ لأن كل الطرق مغلقة: الجوية والبرية والبحرية، وليس مُهمًّا أن نجوع ونعطش، فلا أحد يكترث بنا، وليس مشهدا غريبا أن يُقصف منزل أو حارة أو سيارة أو مستشفى، وليس غريبا أن تموت ولا يتم دفنك لأنهم لم يجدوا لك سبيلا؛ فالطريق إليك هو موت آخر، وللحفاظ على ما تبقى من الأحياء يجب أن تبقى جُثتك مكانها حتى حين، كي لا تَحْدُث كارثة أخرى أو مصيبة أخرى، ولا موت آخر، ولا قبور جماعية أخرى.
من اعتاد هذه المشاهد التي تحدُث باستمرار هو شخص يعلم تماما أنه ليس إنسانًا، وإنما كارثة حقيقية يجب القضاء عليها، فنحن نعيش اليوم لنفقد الكثير والكثير، وكل من يتم فقدانه الآن لا يستطيع العودة، نحن لسنا في إحدى ألعاب الفيديو، ولسنا في فيلم أمريكي، وإنما نحن عائدون من الموت بطريقة أو بأخرى، فلا تألفوا المشهد؛ فلا أحد يعلم الدور القادم سيكون على من!!!
شدُّوا هِمَمكم، وقفوا كالبنيان المرصوص في مقاطعاتكم، لا تعودوا إلى عاداتكم قبل الحرب، ولا تظنوا أنها توقفت، ولا تُسهموا بإمداداهم ببنادق يقتلون بها إخواننا، وكونوا ضدهم وحاصروهم بالكلمات والأفعال والعبارات المنددة، وكونوا أنتم أعيننا التي نرى من خلالها، ولا تتخاذلوا، فرفح وغزة وفلسطين في ودائع الله وودائع قلوبكم وعقولكم، فكونوا حريصين كل الحرص على سلامة الجميع، واسمعوا صوت النداء الذي يأتيكم، ولا تغضوا أبصاركم عن مشاهد الدماء والقصف والغارات، حتى تكونوا على دراية بأن إخوانكم أصبحوا أشلاء ولم يتبقَّ سوى القليل منهم.. فهيا إلى نصرة الحق.