قتل العقل

 

غنية الحكمانية

العقل أداة الإدراك والتفكر، ووسيلة التأمل والتّدبر، والمحرّك الأساسي لعجلة النهوض والتقدم والتغير، وبدون استخدامه تتعطل العجلة ويصدأ مكبحها، فلا يعد لها نفعا ولا قيمة سوى إعادتها للخردة، متهالكة عديمة الجدوى، كالعقل ما لم يتم تحريك راكده وزيادة رقعة تشغيله أصبح عاجزا عن التفكير والتطوير، مسلوب القرار ومشلول الإرادة، ما ينعكس سلبا ورداءة على سلوك الفرد ونشاطه وإنتاجه، وتحويله إلى فرد عاجز يعمل وفق نظام الاجترار والتكرار والتقليد والتقديس. فديكارت اعتبر العقل أنه مقسّم قسمة متساوية بين جميع البشر وأنّ العزو الوحيد هو في آلية عمل هذا العقل أو منهج عمل هذا العقل، ومن أعظم الرذائل هي ضحالة العقل كما أشار وايلد في إحدى اقتباساته.

وفي تعدد الروايات والتفاسير في نقل المرويّات والأخبار والأحداث وفي احترافية الذكاءات المتعددة والاصطناعية في ضبط معالم الصورة ومصداقية الكلمة أصبح العقل الإنساني مشتتا ومشوّها، فالصورة أمامه مضللة ضبابية والحقيقة فيها مخفيّة والواقعية فيها مزيفة؛ قلبا لموازينَ وخدمة لمصالح وتمريرا لأجندة، ما يُحدث صراعات وانقسامات بين العالم الواقعي والمثالي يتشبّث الفرد في أيّ قشّة منها يتخذها منهجا ومنجاة يهتدي بها سبيله، رغم ذلك فالعقل يواصل رحلة البحث عن الحقيقة مهما تشابكت الآراء وتصادمت التوجهات وتخبطت الأفكار بين قبول ورفض وتأييد وتعارض.

لكن المشكلة الأكبر في محاولة اغتيال العقل وإصابته في مقتل، ومدّ حبل الحياة وتسليمه لمَن ينوب التفكير عنه ومنحه رخصة التفكير وزمام التدبير، والعبث بفطرة عقله السليمة، بتقبّل كل ما لا يمكن استساغته منطقيا وفكريا، من ادّعاءات فارغة وتصورات خاطئة وتفسيرات عقيمة، وتصديقها رهبة ورغبة؛ ما ينتج عنه عقلية خوائية مطمورة بالغيبيات والخرافات والأساطير والأوهام، كدُمَى لا تتحرك ساكنا إلا بزرٍّ توجيهي يتحكم فيها وفي حدود ما لُقّنت به؛ باعتبارها من الثوابت أو المعتقدات الرّاسخة أو الثقافة السّائدة والمألوفة في المجتمع، فلا يجوز المساس بها أو محاولة وضعها تحت مجهر الفحص والتمحيص والاختبار.

يدعّمه استجابةً العقل الجمعي وإحكام رأي الجماعة قبضتها على تصرفات العامة وسطوتها عليه، ليحمل المجتمع نسخة واحدة من الأفكار والاعتقادات والعادات، ينساق إليها الأفراد بتبعية عمياء وتماهٍ تام، تجرّهم عاطفتهم ويتم اقتناص انفلاتها دون استخدامٍ للأدوات العلمية والمنهجيّة المحايدة والمتجردة من الأهواء، والسير في اتجاه التيار أينما ارتحل وكيفما حلّ، مع ثقل الأغلال المكبّلة للعقل التي يعتقدها المجتمع ويرزح تحت نيرها، فالعاطفة إذا تزحزحت للعقل أفسدته، والعقل هو أهم مصدر للحقيقة كما أخبر أرسطو الخليفة المأمون في منامه.

 

إنَّ تحصينَ العقلية الإنسانية ضد الشك والنّقد، وضد فلسفة التنوير والتجديد، لا ضدّ الإذعان والتسليم، وتغييبها عن الوعي وتجهيلها عن الحقيقة، والاعتماد على الأجوبة القطعية الجاهزة والتشبث بالقناعات السابقة والتقبل للأفكار الخرافية المستنزفة للعقل؛ حتما يؤدي إلى التطرف والتعصب والنبذ واتهام بالمروق والزندقة والخروج على الموروث. وإن تمّت عقلنة النصوص وتبريرها ومحاولة ربط دلالاتها بالحاضر والتوفيق بينها وبين العقل وإيجاد الخَلاص والاطمئنان فيها. فما الإقرار بالحداثة المادّية والتخلي والتجلي بها دون حداثة العقول ومواكبتها للعصر والتحولات الثقافية والاجتماعية وثورة المعلومات؛ إلا صداما وفجوة عميقة بين الأجيال، جسدٌ مواكب لآخر صرعات الحداثة وفكرمتقوقع في قرون مضت، نتاجه مفارقات وتناقضات وتمرّدات لا يمكن سدّ ثغرتها وردم هوّتها إلا بتصالح الأفهام وتقويم العقليات ومعالجة الاستفهامات.

إنَّنا ندين للعقول جلّ الامتنان على خدمتها للبشريّة في مختلف مجالات العلوم والمعارف، وتحقيقها لانتصارات جليلة وإنجازات عظيمة؛ فالحضارات قد انتعشت بتمجيد العقل والاهتداء بنوره، وإعلاء شأن التساؤل وإجابة الفضول الذي فجّر نهر الاختراعات والاكتشافات والإبداعات، وأبحرت بالبشرية من مستنقع الظلام والجهل إلى دفق النور والعلم، خدمةً للإنسانية جمعاء وسواسية وإلهامها طريق الحكمة والرشاد والسّعادة.

تعليق عبر الفيس بوك