القيمة الأصيلة

 

د. صالح الفهدي

عرضَ عليه صديقهُ الذي ازدهرَ نشاطهُ مبلغًا كبيرًا من المال وراتبًا شهريًا يُحدِّدهُ بنفسه لقاءَ أن يعملَ معه في مكتبه، لكنَّه رفضَ العرض، ثم عادَ إليه الصديقُ مرَّةً أُخرى بعرضٍ أكثر إغراءً وجاذبيةً وذلك بأَن يُدخله شريكًا في نشاطهِ، فأبى العرضَ مرَّةً أخرى، فسألهُ الصديق: لِمَ رفضتَ عروضي وفيها أموالٌ طائلةٌ، وعروضٌ مُغريةٌ ستُحدث نقلةً في حياتك، فردَّ عليه صديقه الذي رفض العملَ والعروض المُغرية: أَنتَ تعرفُ لماذا لم أقبل عروض العمل معك! لقد بعتَ قيمك ومبادئك مقابل جني المال؛ فلم يَعُدْ يعنيكَ كيف يأتيك المال، وبأيَّة طريقة تكسبهُ! أمَّا أنا فلا أبيعُ قيمي ومبادئي، وخيرٌ لي مالٌ قليلٌ أحفظُ به كرامتي ونزاهتي وقيمي ومبادئي من مالٍ كثيرٍ أفقدُ به كل ذلك. غدًا ستُدركُ أَثر كل ذلك حينما تواجهُ العاقبة المريرة!

هذا الموقف يقودنا إلى القول إنَّ مفاهيم كثيرة في مجتمعاتنا قد تغيَّرت، ومن ذلك مفهوم القيمة الأصيلة للإنسان والتي بدأت تتأطَّر في البُعدِ المادي بحيث أصبحت قيمة الإِنسان بقدرِ ما يملكُ من مادة (ثراء مالي، سيارة فارهة، بيت فخم، عقارات، وكل ماركة ثمينة، ومقتنيات غالية)، كما يقول المثل المصري "عندك قِرش، تسوى قِرش"، ولا تتمثل القيمة الأصيلة للإنسان في إنسانيته وفيما يَمْلك من علمٍ وأخلاقٍ وأدبٍ ومواهبَ ومهاراتٍ!

هذا التأثير جاء نتيجة لما تُحقنُ به مجتمعاتنا من ثقافات أخرى أكثرها نفوذًا وتأثيرًا الثقافة الغربية التي جعلت من المادة مقياسًا للنجاح، يقول المُفكر العربي الدكتور عبد الوهاب المسيري: "الحضارة المادية ليست معادية للشرق وحده؛ بل هي ظاهرة ورؤية أمسكت بتلابيب العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، ولا يَظُن أحدٌ أننا بمأمن منها ومن عدميتها وعدائها للإنسان".

 

لقد أصبح كل من يملك ثراءً ماليًا يصوَّرُ على أنه ناجح، فتَكَالَبَ الناسُ في مجتمعاتنا لاقتناء الكتب التي تعدهم بالثراءِ السريع، وكيف يصبحون أثرياء في وقتٍ قصير! وتغيَّر مفهوم الناجح في عقليات الأجيال المعاصرة ليصبح كل من يملك ماديات ليُباهي بها الآخرون، وكثر مدربو التنمية البشرية الذين جرَّدوا الإنسان من قيمته الأصيلة في أن يكونَ إنسانًا يعي بأن قيمته في إنسانيته، إلى أن يحصر قيمته الأصيلة فيما يملك! وتكاثرت الدورات والورش التي تنقل مفهوم النجاح من إنساني واسع، إلى ماديٍّ، فإذا بالبرامج الإعلامية تحصرُ لقب الناجحين في رجال الأعمال الأثرياء! وظهر "المروِّجون/ المسوِّقون" ليصبحوا قدواتٍ، ومشاهيرَ، ونجومٍ للمجتمع رغم تفاهة محتواهم، وانحدار قيمهم!

انقلبت مفاهيم النجاح التي أضاعت القيمة الأصيلة للإنسان؛ فرُبَّ رجل أعمالٍ ناجحٍ في إدارة عمله، وكسب الأموال الطائلة منه لكنه فاشلٌ اجتماعيًا، وخائبٌ أُسريًا، لا يعرفُ أصول تربية الأبناء، وهو مع ذلك مُقصِّر في دينه، وعلاقته بخالقه! ورُبَّ مسؤولٍ قد تبوأ منصبًا عاليًا قد يُرى بأنَّه ناجحٌ لكنَّه حياتهُ مليئة بالخيبات والمشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية!

إذن.. لا يُمكنُ أن يُقال عن إنسانٍ إنَّه ناجحٌ على الإطلاق، بل بتحديد ما هو ناجحٌ فيه مع وجوب الاحترازِ في مسيرة كل من يطلقُ عليه اللقب، فالظاهر لا يعكسُ الباطن، والنتيجة قد لا توضِّحُ الوسيلة!

نعود إلى قيمة الإنسان، ونستحضر قصة العالم العُماني الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ إذ كان سليمان بن حبيب بن أبي صفرة والي "فارس والأهواز" يدفع له راتبًا بسيطًا يُعينه به، فبعث إليه سليمان يومًا يدعوه إليه، فرفض وقدَّم للرسول خبزًا يابسًا مما عنده قائلًا: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟

أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ

وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ

سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَدًا

يَموتُ هَزلًا وَلا يَبقى عَلى حالِ

الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ

وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ

وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ

وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

لقد حدَّد الفراهيدي قيمته الأصيلة في النفس بما فيها من مآثرَ ومحامدَ، لا في المال بما يتبعه من رفاهٍ وبهرجةٍ وتباهٍ، على أنَّ المال مطلبٌ من مطالب الحياة الأساسية، لكنَّه وسيلة وليس غاية كما يراها البعض، الذين يربطون سعادتهم ونجاحهم بقدر ما يحصلون على مالٍ، وهُم في هذا المسعى كشهواتٍ تتجدَّد، ودروبٍ تتعدَّد، ومسافاتٍ تتمدَّد!

يقول عالم الفيزياء ألبرت آينشتاين: "حاوِل ألّا تكون رجلًا ناجحًا؛ بل رجلًا ذا قيمة"، ومعنى ذلك أنَّه ليس كل نجاحٍ ذي قيمة؛ فالمروِّج والمسوِّق قد يكون ناجحًا في المتابعات الافتراضية العالية له عبر وسائل التواصل الاجتماعي وناجحًا في الترويج والتسويق ولكنه ليس له قيمة أصيلة؛ إذ لا يملكُ محتوىً مفيدًا، ولا رسالةً نبيلة.

القيمة الأصِيلة هي التي يكونُ لها الأثر الرَّاسخ؛ فصاحبُ الرسالة القيمية له تأثيره في تغيير وعي الناس وأخلاقياتهم، والطبيب الذي يُساعد المرضى له أثره في صحة المجتمع، والمتطوِّع في الأعمال الخيرية له إنجازاته الاجتماعية في مساعدة المحتاجين، وهكذا تتأصَّل القيمة الأصيلة للإنسان بقدر ما يملك من قيمٍ سامية، ومتميِّزة.

وأعظم تلك القيم هي سعيه من أجل أداء الغاية التي خلقه الله من أجلها وهي عبادته سبحانه، والقيام بالأعمال الصالحة؛ فهذه هي التي تجعلُ من قيمته أصيلة لها وزنها، ونفاستها، وأثرها، وهُنا تكتسبُ حياة الإنسان معنىً وعُمقًا لأنها لم ترتضِ العيش السَّطحي؛ بل بأعمقِ ما تكون عليه المعاني الإنسانية في الحياة.