محمد بن رامس الرواس
عندما أُطلِق أول بث إذاعي تجريبي كان في عام 1896، لكن البث الإذاعي الرسمي انطلق عام 1932 في فرنسا، وكان هذا الحدث من أهم الاختراعات البشرية في حينها؛ كونه النواة الأولى للإعلام الذي تتناقل برامجه عبر ذبذبات الأثير، لتنقل الأخبار المختلفة والحوارات والفنون التي تُشكِّل الوعي المجتمعي.
وبرغم المنافسة الشديدة التي نشهدها اليوم في المجال الإعلامي وبكافة مجالاته، ظلت الإذاعات الرسمية مُحتفظة بمكانتها، باعتبارها المنبر الأسمى للوصول إلى الحقيقة. وخلال العقدين الأخيرين، وبرغم الثورة الإعلامية الكبيرة، حافظت الإذاعات على نصيب كبير من المتابعين، وإن كان قد قلَّ عن ذي قبل، حتى ظهر حديثًا إمكانية الاستماع إليها عبر الهواتف النقالة، فاستعادت مكانتها خاصة مع ظهور الإذاعات المرئية. وبرغم الثورة التكنولوجية في المجال الإعلامي المعاصر، نجحت الإذاعة في التأقلم مع التكنولوجيا الحديثة، فأنشأت حسابتها المتعددة على منصات التواصل الاجتماعي: إكس (تويتر سابقًا)، وإنستجرام، ويوتيوب، وغيرها من التطبيقات الرقمية؛ لتواصل رسالتها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، وتصل لمستمعيها بمضامينها الأصيلة عالية الجودة وأطروحاتها الرائعة، التي تتسم بالثقة والولاء للحقائق فهي لاتزال تمتلك الخصائص أي تتبنى نهج وسياسات الدول والشعوب.
سُعدتُ بالأمس القريب خلال ليالي رمضان المباركة، بالمشاركة في البرنامج الإذاعي "مع رمضان" الذي يُذاع يومي الجمعة والسبت عبر أثير الإذاعة العُمانية من صلالة، ولقد استوقفتني عند مدخل المبنى اللوحة الرخامية التي دُوِّنَ عليها تاريخ افتتاح مبنى الإذاعة بصلالة، بعد أن تم نقلها من مبانٍ موقتة إلى مبنى حديث في حينها عام 1975، وافتُتِحَ المبنى تحت الرعاية السامية للمغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه.
كان إنشاء الإذاعة العُمانية بمحطتيها الأولى بمسقط والثانية بصلالة في نفس العام 1970، نقطة مفصلية في تاريخ الإعلام العُماني؛ حيث جسدت الإذاعة بمحطتيها، أدوارًا وطنية مُهمة، كانت الحقائق ديدنهما، ومنبرًا للحوارات الفعّالة، والمفوهون من الرعيل الأول من الإعلاميين المتفانين في عملهم بأحلك الظروف وأصعب الأزمات، ينقلون عبر الأثير المعلومة الصحيحة والأخبار الصادقة، ويُفنِّدون الأباطيل لكي تصل المعلومة واضحة وجلية للمستمع. وفي العام 1975، تم ربط إذاعة مسقط وصلالة معًا وتوسَّع مدى نطاق البث، وكانت لحظة إذاعة "خطاب النصر"- الذي أعلن فيه السلطان قابوس انتصار القوات العُمانية على قوى التمرُّد- واحدة من أهم المحطات المحفورة في ذاكرة الإذاعة العُمانية، لما تضمنه الخطاب من دعوة للسلام، خاطب فيها السلطان الراحل شعبه داخل عُمان وخارجها، ولن ينسى التاريخ عباراته الشهيرة بالخطاب: "عفا الله عمّا سلف"، ودعوته لجموع العُمانيين بالانخراط في تأسيس الدولة العُمانية الحديثة؛ فاستجاب له الآلاف وعادوا لوطنهم.
اكتسب الإعلام العُماني عامةً والإذاعة خاصة، مكانة مميزة على الساحة الإعلامية العالمية؛ كونه منبرًا أصيلًا للحيادية والسلام ونشر الوعي ومخاطبة الفكر وإبراز الحقائق، وزاد من ذلك ما تتميز به السياسة الخارجية العمانية من احترام إقليمي ودولي؛ لأن منصاتها الإعلامية ومنها الإذاعة شكّلت محتوى وطنيًا راسخًا لم يتغير، رغم التقلبات السياسية العالمية والعربية والخليجية خاصة.
ختامًا.. إنَّ أرشيف الإذاعة العُمانية يزخر بأحد أهم المحتويات التاريخية في عُمان، ويُعد كنزًا استراتيجيًا من المعلومات والوثائق، وأحد أعظم مصادر المعلومات للمهتمين والدارسين والباحثين في كافة شؤون الحياة والقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لما يحتويه من توثيق للأحداث والتعريف بالشخصيات والتاريخ الحديث.