كما يُخيَّلُ لي

 

جاسم بن عيسى القرطوبي

 

إذا ما سألنا شاعراً بما تشعر وأنت تكتب قصيدتك؟ فلا تستغرب استهجانه إن حزن، فلو قرأنا الشعر كهطوله لأحسنَّا العزاء في ذاته بل وهدأت ثورة بركانه. هكذا يُخيَّلُ لي رمضان إذ نلتمس بركاته ونصومه لله ابتغاء جنته ورضوانه، فإننا لو استشعرناه لذاته، لوقفنا على معنى راقٍ آخر لـ"فإنه لي".

وتحدثنا المنابر بلغات شتى عن معانٍ سامية كسموِ الشهر وأنواره فينا، تبصرها البصائر قبل الأبصار ولكن هل جموع الكثرة خالجها أن الكونَ كلَّه مجرد عبارة وهذا الإنسان المقصود؟

ولو تنزلنا أيضًا لمعنى آخر فيه كالإمساك عن الطعام لذقنا طعم جوع الجائعين من محاصرين ومستضعفين لاسيما الذين جمعوا بين وصفي آيتين كريمتين: كتب عليكم الصيام، كتب عليكم القتال. ولو تمهلنا فيه قليلاً كعقارب الساعة اللاهثة صبح مساء ستلسعنا معانٍ للصبرِ جنيُّ ثمارها "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". ولو تعمقنا لما هو أبعد لسبحنا في فهوم أخالُها خفية كالعلوم اللدنية التي يدندنها العارفون في سياحاتهم العرفانية والسلوكية والصوفية، وأذكِّرُ مرة أخرى بأنني أقول هنا هو مما يُخَيَّلُ لي.

ذات ليلة سرحتُ في عبارةٍ تقول: ''اطلب الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق''، ومما يعضدها من شواهد ومتابعات كقولهم: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى، فقلت: ما أروع هذا المعنى إذا استشعرناه ونحن نمسكُ عن الطعام والشراب فنعلّ القصة من بطون الكتب وننهل الفكرة مما يُخيَّلُ لنا صوابه.

تفكرتُ كثيرًا في ما رواه ابن هشام من قصة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وهو يقول: "يا عَمَّاهُ، واللهِ لو وضَعوا الشَّمسَ في يميني، والقَمرَ في شمالي، على أنْ أَترُكَ هذا الأمْرَ حتَّى يُظهِرَهُ اللهُ أو أَهلِكَ دُونَهُ فيهِ، ما تركْتُهُ". فرأيت أن هنا سرًا عظيمًا يكمن في قوة الهدف والإيمان العميق به؛ فالهدف له قوة كبيرة في حياتنا؛ فعندما نحدد هدفًا واضحًا وملهمًا يعطينا الاتجاه والتركيز، ويساعدنا على تحديد الخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيقه.

قوة الهدف تكمن في قدرته على تحفيزنا وإلهامنا للتحرك قدمًا حتى نتجاوز الصعاب والتحديات التي قد تواجهنا في الطريق. يمكن للهدف أن يعطينا القوة الداخلية والعزيمة للمضي قدمًا حتى نحقق ما نصبو إليه.

ولكن من المهم أيضًا أن نكون واقعيين ومنظمين في تحقيق الهدف. ولكن في المقابل يجب أن نحدد خطوات صغيرة وقابلة للقيام بها للوصول إلى الهدف، وأن نكون ملتزمين بتنفيذها بشكل منتظم. قوة الهدف تكمن أيضًا في العمل الدؤوب والاستمرارية،ولست في هذا المقال متوسعا فيه.

رمضان لا يعلمنا كيف نتواضع فحسب، كيف نتسامح فحسب، كيف نصبر فحسب؛ بل كيف نكون أكثر صبرا، تواضعا، رحمةً.. كيف نتخطى المادي إلى المعنوي ونبني جسور الود والمحبة بين الناس. ولا يخيل لي إذ أقول: رمضان هو وقت تتجلى فيه القوة العاطفية والتعبيرية،وكما حدثت فيه الانتصارات العظيمة في تاريخنا الإسلامي كبدرٍ والخندق والقادسية وحطين تتجلى في رمضان فرصة الانتصار بالتغلب على التحديات وتحقيق الانتصارات الشخصية.

فكما نتعبد الله بالإمساك عن الطعام والشراب من الفجر حتى المغرب. هذا التحدي يعزز قوتنا العاطفية والإرادة،ويثير شوقي هنا بيت لشوقي يقول فيه: وما استعصى على قوم منال اذا الاقدام كان لها ركابا. يقف جواد مقالي هنا بالتواصل الاجتماعي- كما يخيل لي- فهذا الشهر يعد فرصة للتواصل العاطفي والتعبير عن المحبة والتسامح. في هذا الشهر، يتجمع الأهل والأصدقاء للإفطار والسحور معًا، وتنشأ روابط قوية بين الناس. يمكننا التعبير عن الحب والعناية بأحبائنا من خلال التواصل الحقيقي لا الافتراضي. فرمضان يعتبر فرصة للارتباط الحق مع الله والترابط وتعزيز الروحانية.

وأنت عزيزي القاريء، ماذا يخيل لك هنا بعد هذا الإكثار ولو بإيجاز؟ فكلنا في هذه الحياة على عجل وسفر، وللمسافر رخصة أن يُقصِر.

تعليق عبر الفيس بوك