مصر.. والخيارات الصعبة

 

مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

 

مُنذُ سنوات طويلة ومصر تتعرض لمؤامرة كبرى، وهي على الدوام مستهدفة من قبل قوى إقليمية ودولية وتعد في عرف الإمبريالية والصهيونية "الكعكة الكبرى"، التي لا بُد من التهامها؛ سواءً بإخراجها من دائرة الفعل الاستراتيجي وتقليص دورها، أو تدميرها كما حصل مع بلدان عربية محورية.

ولا يزال مطروح في الدوائر الإمبريالية والصهيونية: هل تكون مصر البداية أم النهاية؟ ولعل من أسس لهذا التوجه في العقل الغربي المعاصر، هو ديفيد بن غريون رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذي قال سنة 1957 إن ضمان وجود كيانه المسخ المزعوم يتطلب تدمير ثلاثة بلدان عربية هي: مصر وسوريا والعراق، وقد تحققت رغبته فيما يتعلق بالبلدين الأخيرين، وقد انتبه جمال عبد الناصر لهذا المخطط حين أكد أن "البادي بسوريا سوف يُثنِّي بمصر". تلك هي المنطلقات الاستراتيجية للفكر الإمبريالي والصهيوني تجاه الأمة العربية، وعدم إدراكها أو تجاهلها مسألة أخرى.

بيد أن الأزمة المصرية المتراكمة في جانبها الذاتي، تعد ذات منشأ طبقي وهي جزء من حالة عربية مأزومة وعاجزة عن الخروج من مأزقها التكويني رغم محاولات التكيف مع المستجدات المتواترة. ولعقود خلت يحكم فعلها الانسجام والتنافر بين قطبي اليمين الرجعي بشقيه العلماني والديني بتطلعاتهما وارتباطاتهما التحالفية المشبوهة مع شبكات الرأسمالية العالمية وأجهزتها المتعددة الأوجه والمسارات. لقد أطلت القوى اليمينة برأسها بعد الردة الساداتية ضد التوجه الاشتراكي؛ حيث تم ضرب التحالف الوطني العريض الذي يشكل مرتكز الموقف الوطني والقومي والسطو على مكتسباته الاجتماعية. والتأسيس لهذا الإطار العام بدأ بإشاعة مناخات الإحباط واليأس وضرورة الالتفات للمصالح الخاصة، وهو ما عبر عنه أنور السادات بالقول "من لم يغتنِ في عهدي لن يغتني"، وذلك في محاولة إحياء الأوهام ودغدة أحلام الفقراء، وإنعاش غريزة التملك والنزعة الفردية، وتحميل التمسك بالثوابت الوطنية والقومية مسؤولية تردي أوضاعهم الحياتية. وهذا الإعلان حمل في مضمونه ما يكفي من الدلالات المعبرة عن كُنه التوجهات الجديدة حينها.غير أن ذلك مجرد مدخل مبسط لتخديرهم في تسهيل سيطرة تحالف الإقطاع ورأس المال وطبقة الـ5 بالمئة القائمة قبل ثورة يوليو وتمكينها من الاستيلاء على القطاع العام الذي أُهمل لتبرير تخصيصه، وهي سياسة ما زال معمول بها في العديد من الأقطار العربية التي أجهضت المد الثوري بالإصلاحات الاجتماعية والخدمات المجانية وغيرها، ثم بدأت برفع اليد التدريجي وإفساح المجال أمام شرائح البرجوازية الكمبرادورية الطُفيلية للاستحواذ على القطاع العام، تحت مضامين الشعار المضلل بأن "البقرة التي يملكها الفرد تدر أكثر من تلك التي تملكها الدولة".

هذه التحولات الطبقية والفكرية مهدت لاتفاقية كامب ديفيد وفك الارتباط بالقوى المناهضة للإمبريالية عربيًا ودوليًا، ومنها تفشي التِيه السياسي؛ حيث تحولت بموجبها من دولة قائدة في المحيط العربي والأفريقي إلى دولة هامشية ملحقة وتابعة للإمبريالية العالمية وأدواتها الإقليمية الصهيونية والرجعية، وحيث النظر للقضايا الداخلية والخارجية بمنظار المصالح الإمبريالية في تأمين وجود دائم للكيان الصهيوني على جوارها وعلى حساب الحقوق العربية من الناحية العملية.

غياب النظرة الشمولية لطبيعة الصراع التاريخي بين الأمة العربية والقوى الاستعمارية الإمبريالية والصهيونية باعتباره صراعًا تناحريًا قائمًا على نفي أحد أطرافه أو إخضاعه كليًا، أفقدها الى حد كبير اليقظة والنباهة المطلوبة؛ الأمر الذي جعلها تتعاطى مع الظواهر السلبية التي يفرزها الجدل اليومي باعتبارها مسلمات، دون إمكانية التأثير الفعلي في مجريات تشكلها. غير أن ما يطفو على السطح مجرد مظهر خارجي لتوليفة هجينة غير مستقرة تولد باستمرار نقيضها، وأن المعاهدات الاستسلامية التي يراد الاحتماء بها لا تغير من طبيعة العدو وأهدافه البعيدة، ولا تحد من شراهته العدوانية التوسعية، وبالتأكيد لن تخرج الجماهير المصرية والعربية من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

والنموذج المصري القابل للتكرار يستحق تقييمه ليس قوميًا فحسب؛ بل وطنيًا؛ حيث يكشف مستقبل المتهافتين نحو التطبيع، وها هي بعد نصف قرن تراوح مكانها وعرضة للاهتزازات ومحاطة ببؤر ساخنة من جميع الاتجاهات وجلها معادية. وما يجري حاليا في فلسطين المحتلة؛ حيث يراد تفريغها من أهلها بقوة الإرهاب والتجويع وإشراكها في جريمة العصر التي لا تليق بمكانتها التاريخية، تتويج لمنحى خاطئ، وإن كانت الى الآن رغم كل الضغوطات والإغراءات، تُعاند الإملاءات الغربية والإسرائيلية. وبعيدًا عن تقديراتها ومحاذيرها الخاصة المعروفة، تعد وفق كل الحسابات المتضرر الأكبر مما يجري في عموم المنطقة. ويبقى السؤال الذي يرهق العقل: ماذا تريد مصر وكيف؟