فُقِئَتْ عينا الحمراء (2)

 

سالم بن محمد العبري

نعم أقول فقئت عينا الحمراء برحيل الأستاذين الجليلين عبدالله بن محمد بن عامر العبري الذي تقدم بحوالي سنتين إبان (وباء كورونا)، وفي ليلة الأحد 11 من فبراير انطفأ النور الآخر بوفاة أستاذنا ناصر بن محمد بن عامر بن سليم العبري.

لقد كان الأستاذان من الرعيل الأول للمعلمين الذين درستُ على أيديهم أنا والإخوة عبدالرحمن إبرايم ونبهان ابن عمي وأحمد بن عبدالله بن مهنا وسلطان بن محمد بن مهنا وسعدالله بن عبدالله بن محمد إلخ المجموعة التي قد لا أتذكر بقيتها، حيث كنَّا قد بدأنا عند والدي- رحمه الله - بنفس المقر في الغرفة المُلحقة بمسجد السُّحمة وفي هذا التوقيت قد أكملنا (ملحة الإعراب) وشرعنا بـ(ألفية ابن مالك) بشرح (ابن عقيل) وبتعليق (محيي الدين عبدالحميد)، فلّما كدنا ننتهي من دراستها على يد أبي أُصيب بمرض في معدته، وهو المرض الباطنيّ الذي لازمه حتى وفاته في مارس 1991 الموافق لشهر شعبان عام 1411 هجرية؛ فلما قطعه المرض والسفر للعلاج كُلِّفَ الأستاذان (بن محمد بن عامر العبري) و(ناصر بن محمد بن عامر بن سليم العبري) بمهمة مواصلة تعليمنا، وكنا معهما ننتقل في الشتاء للتحلِّق والدراسة بمصلى (العيد) في الحمراء طلبا لدفء الشمس من البرد الشديد.

 لقد كانا الأستاذان (عبدالله) و(ناصر) العَبْريان مجيدين للغة العربية و يكادا لاتبارح شفاهما شواهد اللغة العربية و امثال العرب و القران الكريم ولا تكاد سيرة العلامة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري تبارح ذاكرتهما والتمثل بها وبسؤالته وأجوبته وأشعاره وقصصه وأسفاره، وكأنه تاريخه وعلمه مطبوع على شفتيهما، فلا يبرحان لسانهما عند كل استدلال أو استذكار، ثم يردفان بآثار الشيخ ماجد بن خميس العبري شعرا ونثرا، ولا غرو فقد ولدا الأستاذان (عبدالله) و(ناصر) العَبْريان بعد الشيخ ماجد بقرابة عشرسنوات وكانت نشأتهما أثناء تتلمذ وخلافة العلامة إبراهيم بن سعيد العبري على يد العلامة الشيخ (ماجد بن خميس العبري)، وقد اشترك الأستاذان (عبدالله) و(ناصر) العَبريان مع أستاذهم في تتبُّعِ سيرة بقية السلف ومَلَكَ لُبَّهم و شحذ نهمهم للعلم والمعرفة، فكانا نِعْمَ التلميذان الوفيّان لشيخهما العلامة المفتي السابق إبراهيم بن سعيد العبريّ و اقتديا في الدرس والتطبيق والمعايشة للعلامة ماجد بن خميس العبري.

لذلك كان الأستاذان (عبدالله) و(ناصر) العَبريان من رواة كل آثار وأجوبة وأشعار العلّامتين (إبراهيم وماجد) العبريان، ومخزن نتاجهما العلمي والخبري، جمعا وسطرا وحفظا، وكانا يتمثلان بوالديهما الذى كان يصدق فيهم أيضا لقب بقية السلف الصالح ورعًا و زُهدا و تواضعًا و ترُّفعًا عن الدنايا والدنيويات.

لقد كان- رحمه الله- لا يترك (سبلة الصلف) وهي في اكتمالها إلا لينحاز للفلج يتوضأ لصلاة العصر من البويب الغربي بمدخل السبلة المواجه مباشرة لمرافق الفلج ويستمر به إلى ما بعد أذان العصر مسرعا لـ(مسجد الحديث) الذي هو إمامه ورأسه وعَلَمُه وكنا نرى آثار إسباغ الوضوء على وجهه نورًا وعلى مرافقه ماءً. وكان هو والأستاذان ابناه محل التمثل بالأمن والورع وكانوا شهود العدل بالبلد والمنطقة يتبادلون الأدوار والتكامل مع أبي- رحمهم الله جميعا وجزاهم عنا خيرًا- فإن كتب أبي شهدوا هم، وإن كتب أحدهم شهد والدي مع أحدهم.

فلما سبق والدهم الشيخ الفقيه الزاهد الورع إلى جوار ربه مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، بل وقُبيل وفاته حين ضعف حاله وانتقلت إمامة ووصاية المسجد إليهما وإن كان الأستاذ عبدالله في الأعم الأغلب هو الذي يتقدم، فإن لم يحضر يتقدم الأستاذ ناصر لإمامة الناس. فلما انتقلا للمخططات الجديدة فكان الأستاذ ناصر إماماً لمسجد وجامع (طوي سليم) وظل إمامه في كل الصلوات وتراويح رمضان وساعات السحر واستقر الأستاذ أبوسعيد (عبدالله) إماما لمسجد (الحديث).

كان يمكننا أن نشير إلى عمق فهمهما لفقه الصلاة فمنذ سنوات توفيت بعد صلاة العصر إحدى أمهات البلد وكان علينا أن نشارك في دفنها وكنَّا في الغالب نتعجل العودة إلى مسقط لأعمالنا فعدنا من دفنها وكانت تُقام صلاة العشاء وأمَّ المرحوم الأستاذ ناصر الصلاة كعادته بجامع (طوي سليم) فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (سورة التكاثر)، وفي الثانية بسورة (الإخلاص) فُسُرَّ المصلون باختصاره ولم يتقعَّر بالسور أو الآيات الطويلة كما نراه من غير العارفين بأسرار الفقه.

و كان الأستاذ ناصر رحمه شغوفا بالأخبار مستقصيا؛ فلما عدت في أول مرة من القاهرة في يونيو 1971 التقينا بمجلس العلامة إبراهيم بمزرعة (ضاحية الشواوي) إذا كان لم ينتقل بعدُ إلى (مجلس الخطيوة) المعتاد بالصيف بعد لَانَ القيظ أو لم يبدأ فظل رحمه يسائلني عن كل شيء في مصر؛ التعلبم والتقدم والزعامة وعن الطلبة وعن آثار وأبناء الشيخ أبي إسحاق أطفيش الذى أقام بالقاهرة واستقر بها وتأتي أخباره العلمية والفحولية ومقارعات ومحاورات المحاورين، حيث لم تكن في تلك الفترة إلا أخبار القاهرة ودمشق وبغداد وكانت إذاعات (صوت العرب) والقاهرة ثم دمشق وبغداد هي السائدة في حينها ولم يكن الإعلام البترولي الغربي التصهينيّ قد تسيَّد ولم تكن المذهبية قد تسيّدت على الفكر الديني وإن كان لازال مبدأ الإسلام بلا مذهب هو الصوت العالي. لقد أشبعني أساتذي ناصر العبري أسئلة واستفسارا و كأنني أمام محقق علمي.

ولم ينس حتى بعض الحوارات مع بعض المسؤولين فقد نسيت حواري مع الأخ والصديق والأستاذ سالم الغيلاني حين كان بالتربية والتعليم عند افتتاح أول مدرسة نظامية بالحمراء،(مدرسة الشيخ أبي سعيد الكدمي)؛ إذ كنت في زيارة له في مقر عمله واستغرب تلك التسمية وهو بعيدا عن هذا الحقل؛ فهو في ثقافة البحار والتجارة وثقافة ذلك العصر ومنطقته وليس لهم اطلاع عام بتاريخ الشخصيات الفقهية كالشيخ أبي سعيد وهو من علماء القرن الرابع الهجري في منطقة الداخلية وقطب من أقطاب الإباضية. ولا لوم على الغيلاني وله أكثر من عذر. لكنني كنت شابا متحفزا حاميا فرددت عليه (كيف تكون مسؤولا بالتربية والتعليم وأنت لاتعرف الشيخ أبا سعيد الكدمي)، وربما نسيت الحوار لكن أستاذي ناصر العبري الحاذق المتتبع لم ينس هذه المحاورات ويُذكّرني بها كلما صار استرجاع للمواقف وإن كان هذا لا يذكر مع سيرته.

وحين أرادوا أن يغنوا البنوك بأموال الأوقاف طُلب منه أن يخلي أمانة الأوقاف ويسلم المبالغ التي بحوزته فأخلى مسؤليته وأخرج ما يقارب مائة ألف ريال جمعها وحفظها في أمانته. هؤلاء هم الأمناء وأمثالهم ممن يحملون المسؤولية والأمانة والوظيفة العامة؛ لكنهم رفضوا أن يلوا القضاء رغم أنهم طُلبوا له مرارا وفضلوا أن يكونا أساتذين للأجيال بولاية الحمراء والمنطقة قرابة قرن في المدارس النحوية والنظامية- رحمهما الله عزَّ وجلَّ- وأسكنهما فسيح جناته، وجزاهما عنَّا وعن أهل (الحمراء) كافة وعن سائر الأجيال التي سارت على نهجهما ومن سيسيرون مقتفين أثرهما خير الجزاء، والسلام عليهم وعلى أرواحهم إلى يوم الدين.

تعليق عبر الفيس بوك