وفي البلدةِ مالك!

 

 

المعتصم البوسعيدي

يتدفقُ مثل فلج بلدته، ظِل سكتها، وأحاديث الطفولة بين روابي النخيل في "التسعةِ والوقيفِ والصروم"، شامخًا كقلعتِها وصلبًا كجبلِ "بو قلع" الذي اعتاد صعوده، فلم يكن يحب "العيش بين الحفر" راكضًا للخير، سبَّاقًا للصدقات، راميًا في ميدان الرماية، قائدًا له، مفعمًا بالأخضر بلدةً وفريق، لا تجده في المعاركِ الخاسرة؛ بل في الحربِ فردًا منتصرًا، فهو من كبارِ ضباط عُمان، مالكًا للقلوبِ وهو مالك، ابتسامةٌ دائمةٌ وأثرٌ في الحياةِ والممات.

هاتفهُ لا يتوقف عن طلبِ مساعدة، ولفظ "واجبنا" لا يُفارق لسانه، وبيتُ صدره مفتوحٌ أبوابه، دربه في الخدمات الطبية لقوات السلطان المسلحة عنوانُ مُثابرة وكفاح، وفي بلدته مكانةٌ لا ينازعه عليها أحد، نزقٌ تعليمي على ساحاتِ "عزان بن تميم"، وشغبٌ معرفي في "المهنا بن جيفر" وشغفٌ عملي ارتقى به إلى أعلى الرتب، وبذخٌ أخلاقي يُشبِعُ جُلاسه أنى ذهب، مسافرٌ "بسبعِ الفوائد" وفي حضرتهِ التواضع السامي والبساط الأحمدي. فكيف نوفيك حقكَ أبا الصلت؟ وكيف نهدمُ أسوار التحديات بدونك؟

وفي فريقِ الأخضر بولاية المضيبي، كان "الجرمل" الذي يطوي الملاعب، والراكض نحو المصاعب، والمبادر في كُل المحافل، رئيس لجنة الرماية، قبطان نجاحاتها، برفقة الراحل الغالي "ياسر" رحمة الله عليهما، حيث توضآ -معًا- الإخلاص والتفاني، وتشاركا في الحلمِ والواقع، وها هما اليوم جاران تحت الثرى، أثكلا القلوبَ وأدمعا العيون، وملآ الحزن أفئدةً لطالما عمراها بالعمل الصالح، وحين نبحث عن مخرجٍ للعتمة؛ كان هو أحد قناديل الأمل، نسأل فيقال: "وهل يُفتى ومالك في (البلدة)؟" فيأتي بنور يده البيضاء "فلا تعلم شماله ما أنفقت يمناه".

سأفتقدُ "عاصم" نداء أخويتك السمحة، سأفتقدُ "تم" لكل مقترح ومبادرة، سأفتقدُ ابتسامة لقائك، ومزاح الصحبة في "لمة" الزمن الجميل، سنفتقدُ دفتر مُلاحظاتك في مسابقاتِ الرماية، وكلمة الفصل في احتجاجِ رامٍ يحاول الحصول على نتيجةٍ أفضل، ومفاضلة الدروع والجوائز، سنفتقدُ "محراث" المعسكرات تنظيفًا وترتيبًا واستعدادًا، سنفتقدُ الإنسان الذي ينثالُ طيبًا وجمالا.

لقد كان آخر عهدي بك قبل أقل من أسبوعينِ في مجلسِ الوالد، بصحبة شقيقك الدكتور حميد، تُشعلانِ الشموع، وتُطبطبانِ ألم الموجوع، وتبحثانِ عن بسمةِ الرضا بين الضلوع، فتمضي، وعلى آخر رسالة منكَ "كثر الله أمثالك، ورفع الله قدرك"، أقف مصدومًا حين أطل فجر رحيلك. رفع الله قدركَ في رياضِ جناته، وكثر أمثالكَ في ذريتك الصالحة، خير خلف لخير سلف، وستظلُّ فينا "مالك"؛ إنسان الأقوال والأفعال، رفيق العطاء، وأخًا للنقاء، نحملكَ في الحنايا ونستنطقكَ في الدعوات، وعلى العهدِ سنبقى، اخضرارَ الوسيلة والغاية، والله غالب على أمره... وإنا إليه راجعون.