إلى المواطن الصحفي

 

هند الحمدانية

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:" لكل زمان مضى آية.. وآية هذا الزمان الصحف.. لسان البلاد ونبض العباد.. وكهف الحقوق وحرب الجنف"، والصحافة العدسة التي تُكبر مشهدا ما في أعين العالم أو تصغره أو تقرب للأعين زاوية كانت غير مرئية فتجعلها محل أنظار النَّاس وحديث ألسنتهم، مهنة عظيمة ليس بمردودها المادي؛ بل بأثرها الخالد الذي قد يُغيِّر المصائر ويُعيد الحياة لقُطر ما.

في هذا المقال أريد أن أشارككم مشهدًا بسيطًا للقاء عابر غير أسلوب تفكيري ككاتبة وجعلني أميل إلى رؤية العالم من خلال عدسة بناءة مُغايرة تمامًا للأساليب التقليدية لمهنة الصحافة.

الأمر تطلب موقفا عجيبا مع رجل خسر منزله وسيارته البسيطة وكل ما يملكه إثر إعصار شاهين المدمر، يجلس على جانب جدار متكئًا على طرف سلم صغير يغمره الماء المكدر بالطين، كيف الحال: الحمد لله، ما هو شعورك بعد تلك الليلة القاسية؟ هل يمكنك توضيح مدى فظاعة الخسائر التي تسبب بها الإعصار؟ تحدث الرجل عن منزله الذي تضرر بشكل كامل وسيارته التي غرقت بسبب الفيضانات وعن الخسائر المختلفة التي تكبدها الأهل والجيران. وكان مُتحدثًا رائعًا قدَّم لي كل ما أحتاج من معلومات وكدت أن أنهي الحديث معه، ولكنه أستوقفني بقوله هناك أيضًا شيء آخر تعلمته من هذا الإعصار، فقلت له: حقًا! ما الذي تعلمته؟ قال: تعلمت أنني أقوى مما كنت أعتقد، فأنا رجل مسرح عن العمل منذ أشهر ومتورط بقروض بنكية عاجز عن سداد أقساطها، كنت أظن أنَّ ما أمر به هو أصعب شيء يُمكن أن أصارعه في هذه الحياة، ولكن بعد تلك الليلة الطويلة التي جابهت فيها الموت من أجل البقاء أنا وأسرتي تعلمت أنني لست ضعيفًا، وأن الأبواب المفتوحة خير من تلك التي أغلقت. تعلمت أنَّ  هناك دائمًا أناس يريدون مد أيادي المساعدة دون مقابل، ثم بدأت أتابع معه الحديث بأسئلة أخرى وفجأة ذهب الحوار باتجاه آخر تمامًا، ثم أدركت عندها أن نوعية الأسئلة المُلهمة التي بدأت أطرحها والإنصات الجيِّد لهذا الرجل، جعل واقعهُ مختلفًا وجعله يفكر في نقاط قوته ومرونة ما يمكن تعلمه من أي حدث سلبي أو قاسٍ. وهنا أدركت أهمية الوعي للطريقة التي ينظر بها الصحفي للأحداث وطريقة السرد فهي إما أن تخلق ضحايا وتشجعهم أن ينغمسوا في وحل الأفكار السلبية أو أن تزرع بذرة أمل تتوق لأي بصيص نور لتتسلق أشعته وتشق طريقها للحياة.

ما يختاره الصحفي لتسليط الضوء عليه في تقاريره، يصبح حقيقة ولو بعد حين، نحن نستقطب الآراء والأفكار والقناعات المختلفة ونملك القدرة على تأجيج النقاشات بشكل تصاعدي؛ فالصحافة تطرق كل الأبواب وتؤثر في كل المجالات من سياسة ومؤسسات وحياة اجتماعية وأفراد، ولذلك كان واجبًا على الصحفي المواطن التحلي بمستويات عالية من الوعي والأخلاق والسمات الحميدة وإدراكه الجيد بما يعتقده من مبادئ لأنه في نهاية المطاف سوف يسكب كل ذلك في تقرير أو مقابلة تبث على عموم المجتمع ويستقبلها الملايين من مختلف الطوائف.

أعتقد أننا نؤثر على الأخبار والمجتمع من خلال اختيار ما نُغطِّيه من مواضيع ومن نتحدث إليهم من شخصيات ومحتوى الأسئلة التي نطرحها والزاوية التي نلقي الضوء عليها، واختيار مواضيع معينة في أوقات معينة قد تثمر تغطيتها بالبناء أو الهدم، لذلك نؤكد أهمية اعتماد العناصر البناءة في الصحافة وهي تغطية الأحداث بهدف إعادة بناء شيء ما وتحسينه وإيجاد الحلول وليس لمجرد التغطية، فهذا يضيف شيئا للمجتمع والناس. والصحفي المبتكر ذلك الذي يطرح أسئلة جديدة مبتكرة: ما الذي تحتاجه لتوفير فرص وظيفية أكثر أو للقيام بعمل أفضل؟ ما الذي يتطلبه الأمر لكي نتقدم في هذه المرحلة؟ هذه النوعية من الأسئلة البناءة تعمل على احتواء الطرف المقابل فيتوقف عن اتخاذ الموقف الدفاعي المعتاد، ثم يفتح المجال للاجتهاد في خلق وابتكار الحلول والأفكار الداعمة، لأنَّ قوة الأسئلة الإيجابية الهادفة طرحت واقعا جديدا للمسؤولين والمؤسسات وجميع الأطراف.

لقد أظهرت الدراسات أن الناس الذين يقرأون أخبارًا ملهمة هم الأكثر استعدادًا وقابلية للتصرف بشكل إيجابي ومبادر، كأن يدعموا قضية ما؛ سواءً بالتطوع أو بالمساعدات المادية أو غيرها، وهذا يؤكد فكرة أن الأخبار البناءة الملهمة تقدم رؤية أكثر اكتمالا وشمولا لما يدور من أحداث؛ لأنها تكشف وجود مشكلة ما وتركز في نفس الوقت على إيجاد الحلول مؤطّرة في سياقات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية مختلفة وتستخدم اتجاهات طويلة المدى معززة ببيانات موثوقة لدعم الأفكار المهمة وتتجنب موضوعات المقابلات الضحلة التي لا تؤدي إلّا إلى خلق الاضطرابات والفتن.

لسوء الحظ أن الصحافة ليست مثل الرياضيات حتى يكون واحد زائد واحد يساوي دائمًا اثنين، لذلك من الصعب علينا الحكم في الأمور والأحداث بشكل موضوعي مُجرد، لأن الصحافة في نهاية المطاف هي من صنع البشر عن البشر ومن أجل البشر، فهي بطبيعتها عرضة للخطأ والنقد مثل البشر تمامًا، لذلك نحتاج دائمًا إلى تفعيل الجانب الإنساني وروح العدالة والسمات الأخلاقية والدينية الأصيلة المتجذرة بعمق في جيناتنا وعقيدتنا وإسقاطها على الأحداث والقضايا التي تدور في عالمنا.

الحاجة باتت ماسة إلى النهضة بالصحافة العُمانية، والأذرع مفتوحة للصحفيين القادمين لبناء جسور جديدة من المصداقية والثقة والعمل بدافع الصالح العام للوطن والمواطن.

أيها الصحفيون.. عُمان بحاجة إليكم، الصحافة هي الحرب وهي معركة يومية من أجل الحقيقة، ويتطلب الأمر منَّا جميعًا أكثر من مجرد فضول أو معرفة كيفية الكتابة أو التصوير أو التدوين، يتطلب الأمر الشجاعة والنزاهة؛ لأنَّ جودة الصحافة تكمن فقط في جودة الأشخاص الذين يمارسونها، لذلك أدعوكم جميعًا أيها الصحفيون والإعلاميون الشرفاء لانتخابات مجلس إدارة جمعية الصحفيين، والمقررة يوم الأربعاء، وهي فرصة ذهبية للجميع لاختيار القائمة التي يرى فيها قوة الصوت وشمس الحقيقة والاستعداد التام للوقوف والتقدم بالإعلام والنهوض بالصحافة والنضال من أجل الوطن وازدهاره.