علي بن مسعود المعشني
إلى وقت قريب، لم تكن هناك مواجهة عسكرية مباشرة بين العرب والكيان الصهيوني أطول من مواجهات لبنان عام 1982، تلك المواجهة والتي يختصرها الإعلام العربي عادة بجملة "الاجتياح الإسرائيلي للبنان"، وكأنه حدث طارئ وعابر، أو مناوشات حدودية محدودة الزمان والمكان.
بينما الحقيقة أن تلك المواجهة كانت أطول حرب بين العرب والكيان الصهيوني حتى ذلك الحين؛ حيث استمرت 82 يومًا، وتخللتها معارك وملاحم مفصلية حادة، أثمرت الكثير من الوقائع على الأرض، وخلّفت العديد من النتائج الخطيرة في الصراع العربي الصهيوني، لو قدر للعرب توظيفها كأوراق سياسية ضاغطة على الكيان ورعاته.
كان العنوان الابرز لتلك الحرب هو تطويع جبهة لبنان وتصفية ساحتها من فصائل المقاومة الفلسطينية، بينما الهدف الإستراتيجي الابرز وغير المعلن كان تطويق سوريا وتطويعها لقبول "سلام" مع العدو واللحاق بركب كامب ديفيد وثقافتها.
خرج الكيان الصهيوني من تلك الحرب بأهم انتصار سياسي له وهو تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى فصيل سياسي منزوع السلاح، ونقل قياداتها ومقرها إلى تونس، وفي المقابل خسر الكيان الصهيوني ورعاته مخطط تطويق سوريا وإلحاقها بركب كامب ديفيد؛ حيث بقي النفوذ السوري في لبنان، وبقيت سياسة اللاسلم واللاحرب قائمة مع الكيان من طرف سوريا منذ إقرار وقف إطلاق النار عام 1974 بعد حرب أكتوبر 1973.
"طوفان الأقصى" اليوم تجاوز حرب لبنان في كل شيء؛ فهناك حرب على أرض فلسطين وليست على جغرافيات أخرى كحرب لبنان، وهناك فصائل مقاومة فاعلة ومؤرقة للعدو تنتشر على جغرافيات عربية مختلفة، من لبنان إلى العراق إلى اليمن، وهناك أسلحة نوعية تكتيكات حربية وتدرج في المواجهة أربكت العدو ورعاته إلى حد كبير.
المشهد العام على السطح والذي يحرص العدو على تسويقه يتمثل في صور خراب ودمار وحصار وقتل يومي وتجويع ومرض في قطاع غزة، ليغطي خسائره الآنية الكبيرة العسكرية والاقتصادية والسياسية والقضائية، وليحطم وهج الحاضنة الشعبية للمقاومة في فلسطين والوطن العربي والعالم، ويعيد توصيفها وتصنيفها في الوعي العربي إلى خانة المغامرة والمقامرة من فصائل "مراهقة" سياسيًا وعسكريًا مقابل قوة عسكرية وأمنية وسياسية لا تُقهر.
"طوفان الأقصى" خلط أوراقًا كثيرة لا حصر لها، في الوعي العربي والضمير العالمي، وفي داخل البيت الفلسطيني، وهذه الأوراق لن تنتهي صلاحيتها بوقف إطلاق النار بغزة وبشروط المقاومة فحسب؛ بل سيمتد وطيسها إلى ما بعد الطوفان أعوامًا وعقودًا.
"طوفان الأقصى" لم يضع القضية الفلسطينية على طاولة الخيار الأول فحسب؛ بل أعاد للعالم نظرته إلى ماهية الكيان الصهيوني وحقيقه وظيفته وأهداف رعاته للمنطقة والعالم انطلاقًا من فلسطين.
"طوفان الأقصى" أشعل ساحات إقليمية ودولية كثيرة كانت خامدة أو منسية، وبعث بأوراق سياسية ومخططات إستراتيجية كثيرة لأقطاب متعددة في العالم، من أوكرانيا إلى السودان إلى الصومال واليمن والعراق وإثيوبيا والساحل الأفريقي، وجميع تلك الأوراق ليست للمساومة والضغط فحسب؛ بل لتجاوز آثار الطوفان وتحويله من نكبة للكيان الصهيوني إلى نصر سياسي يرمم وعيه ويجبر ضرره وسمعته، ويطيل من عمره الافتراضي.
لا أبالغ إذا قلت إن الطوفان بدأ محدود الأهداف والنتائج المرجوة منه، ولكن التعنت الصهيوني وغطرسة رعاته، جعلت منه محور قضايا كونية، ومنه سيتشكل واقع جديد للعرب والقضية الفلسطينية والعالم.
سيشهد العالم بعد الطوفان حروبًا صامتة ولكنها مفصلية وطاحنة، بدءًا من الانعتاق من أغلال الدولار، وصولًا إلى التحرر من أغلال الاستعمار التقني والهيمنة الغربية على العالم عبر التقنية والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. سنشهد هرولة محمومة من الكيان الصهيوني ورعاته نحو التطبيع والمزيد من بسط وتسويق ثقافات "السلام" قسرًا، لعزل المقاومة وتأثيرها ومواجهتها بالضد النوعي والمتمثل في النظام الرسمي العربي المُطبِّع، وسيسعى لإزالة قضية فلسطين من الخطاب الرسمي العربي كشرط للتطبيع، ولكنه في المقابل يجهل ويتجاهل حجم خانة المقامرة التي يضع فيها "حلفاءه" المُطبِّعين حين يواجهون الواقع ووعي ما بعد الطوفان.
المقاومة اليوم لم تعد أرقامًا واحصائيات وجغرافيا متناثرة؛ بل ثقافة عابرة للأجيال والحدود، وهنا مكمن الخطر على من يقاوم المقاومة أو يقف في وجهها.
قبل اللقاء.. أكبر الخاسرين في هذا المخاض التاريخي الكبير هو النظام الرسمي العربي، والذي لم يفق ولم يستوعب ارتدادات الطوفان عليه ما لم يركب سفينة النجاة اليوم ويعتصم بالمقاومة كخيار إستراتيجي.
وبالشكر تدوم النعم.