الطليعة الشحرية
ماذا يحدث في الشارع العربي؟ هدوء أشبه بالقبور، الكل مُتفرج والكل مُشاهِد في صمت، يرتكب الاحتلال الإسرائيلي 11 مذبحة ضد العائلات في قطاع غزة راح ضحيتها 103 شهداء و145 إصابة في 24 ساعة يوم 14 فبراير، ولا نواح ولا بواكي؛ بل وتتسارع الإمدادات للكيان اللقيط المحتل عبر ممر العار وكأنه أمرٌ طبيعي!
هل الاستعمار وراء ما يحدث؟ فكما يقول ابن خلدون "أن المغلوب مولع باتباع الغالب"، وفصّلها المفكر الجزائري مالك بن نبي مُستقرئًا حال الأمة ومراحلها التاريخية في كتابة "شروط النهضة" وصولًا إلى مكمن الداء ألا وهي "القابلية للاستعمار".
يُعرَف الاستعمار على أنَّه سيطرة دولة قوية على دول ضعيفة، من خلال بسط نفوذها واستغلال خيراتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية، والاجتماعية والثقافية، يرتكز الفكر الاستعماري على نهب الثروات وتحطيم كرامة شعوب، وتدمير إرثها الحضاري وتراثها الثقافي. يفرض المستعمر ثقافته على أنها الثقافة الحضارية الأمثل، وأن ثقافة المحتلُ قادرة على نقل البلاد المحتلةِ من حالة التخلف والجهل إلى مرحلة "التقدم الحضاري". وفي حالات كثيرة كانت تفرض الدول المُستعمِرة على سكان الدول المُحتَلَّة لغاتها وثقافتها الأجنبية، فنجد اليوم الكثير من شعوب الدول التي كانت تحت السيطرة الأجنبية يتحدثون لغات المستعمر ويتصرفون حسب ثقافاته.
من العرق الذي يُفكِّر؟
يتباهى الغرب بتقدُّمه العلمي ويُعزيه إلى عبقرية علمائه، ولا يمكن فصل مسيرة العلم الحديث عن تاريخ الغرب الاستعماري. فقد كان العلم جزءًا أساسيًا في تمكين وتوطيد الاستعمار، وساهم في تعميق النظرة العنصرية ضد الشعوب المستعمرة. واستُخدِم العلم في الدفاع عن الإمبريالية (الاستعمار)؛ باعتباره مُبررًا أخلاقيًا لحُسن النية الاستعمارية اتجاه الشعوب المستعمرة.
فالمشروع الإمبريالي- كما يدّعون- في أصله مشروع خيري يُعزز الصحة والنظافة العامة لدى الرعايا المستعمرين؛ فالاستعمار كان يُحمِّل الرجل الأبيض واجبًا أخلاقيا يُحتِّم عليه جلب الحداثة والحضارة للمستعمرات!! ولا نعلم لماذا توسع الاستعمار الإمبريالي إلى أفريقيا والهند والشرق الأوسط، ولم يشمل الجارة الفرنسية التي ضاقت أزقتها بالقاذورات دهرًا؟!
هل العلم مكرُمة غربية؟
تبرير التحريم بالتحرير، مُبرِّر يريح ضمير ساسة الاستعمار الإمبريالي؛ فالرجل الأبيض أكرم العالم الحديث بالعلوم ووضع نفسه موضع المحكم والمنظر، فلا علم يُقبَل ويعد علمًا حقيقيًا إلّا باعتراف غربي، ولا سياسية اقتصادية واستثمارية تكون صالحة سوى بمؤشر مؤسسات غربية. والبنك الدولي مسؤول عن تمويل البلدان بغرض التطوير وتقليل إنفاقه، إضافة إلى تشجيع وحماية الاستثمار العالمي.
وكلما اتحدت الشعوب أو فصائل تعود سياسة "اذبح البقرة" وهي سياسة مارستها بريطانيا إبان استعمارها للهند؛ فعند اتحاد الشعب الهندي، تلجأ بريطانيا إلى ذبح بقرة من الأبقار (المُقدسة) لدى طائفة الهندوس ووضعها أمام بيوت المسلمين لإلصاق تهمة الذبح بهم. الأسلوب ذاته الذي يستخدمه المنشقون بين مؤيد لحماس وبين من يتهمهم بموالاتهم لحزب وطائفة على أخرى.
وبالنظر إلى الإحصائيات الخاصة بالأبحاث على مستوى العالم لمعرفة كيف يستمر التسلسل الهرمي العلمي، نجد أن التصنيفات السنوية للجامعات في الغالب من قبل العالم الغربي، وهي دائمًا تميل لصالح مؤسساته، كما تُهيمن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على المجلات الأكاديمية عبر فروع العلوم المختلفة. وما دامت الهيمنة الغربية على العلوم والمعرفة تُقاس حسب مؤشرات وتصنيفات غربية، سيظل طوق الاستعمار مُمتدًا.
العربي والاستعمار
اجتاح العالم العربي الإسلامي الاستعمار طوال القرنين الـ19 والـ20، طُبِعَ خلفه في العقل الجمعي للشعوب العربية المُستَعْمَرَة مرض "القابلية للاستعمار" (بحسب وصف مالك بن نبي)؛ وهو استسلام شبه طوعي للواقع أدى هذا الداء بالشعوب إلى قبول الخنوع والقبوع والوقوع فريسة سهلة المنال في يد جلادها.
فكما هو الحال في اعتبار المشروع الاستعماري "تحريري خيري" وذلك لإيجاد مُبرر مقبول تريح الضمير الغربي الإمبريالي وتعطي مصوغاً أخلاقيا مشروعاً للمحرمات والجرائم المرتبكة من قبل الإمبريالية الاستعمارية في النهاية فالمشروع الاستعماري تحريري خيري وإنساني.
شعوب هذا العالم تنقسم إلى فئتين؛ الأولى تُعاني من عقدة الذنب وصحوة الضمير، وهذه تنطبق على العالم الغربي، والفئة الثانية هي تلك المصابة بداء "قابلية الاستعمار" ويعاني من هذا المرض السواد الأعظم التي رزحت تحت الاستعمار. خلف الاستعمار أفراد يؤمنون بالمفاهيم الاستعمارية ويقبلون الحدود التي رسمها الغربي المستعمر للشخصية العربية؛ بل وقد يكافح وينافخ ويدافع عن الغربي المُستعمِر بشراسة؛ ودلالة ذلك تلك الكيانات الوظيفة التي ساهمت في دعم الكيان اللقيط المُحتل وإمداده بما يحتاج، وفي المقابل يموت عشرات الآلاف في غزة تحت الحصار والعدوان الإسرائيلي، بينما يشاهد البقية المجازر والتطهير العرقي كمسلسل تلفزيوني معلومة نهايته.
الحرب الصفرية
مَرَّت بالبشرية أربعة أجيال لصناعة الحروب؛ وهي القتال بالسلاح الأبيض، ثم الأسلحة النارية، ومن ثم النووية، وأكثرها خطورة حرب الطابور الخامس تحت شعار "أترك عدوك يحارب نفسه بنفسه"! واختصرها روجيه غارودي الفيلسوف الفرنسي (الذي اعتنق الإسلام في مراحل متأخرة من حياته) بقوله: "يُقاتِل الغرب بالتكلفة الصفرية.. العدو يقتل نفسه.. العدو يدفع ثمن السلاح (للغرب) ثم يقتل نفسه به، ثم يطلبنا العد للتدخل لإنقاذه، فلا نقبل".
لا يمثل الشرق الأوسط والعرب إلّا أعداءً للغرب وإن أخفوا عداوتهم، ولا يمثل الغرب للعرب غير غالبين يتبعونه طواعية واستسلامًا، وذلك باستثمار فئات ظاهرها رفض المطلق للاستعمار، ولكن قلوبهم تطمح للريادة والزعامة، وعقولهم مُستعمَرة طواعية فتنقاد وتُطبِّق سياسيات وتحرك خلايا الساقطين من مشاهير وفنانين وعلماء وأدباء والذباب الإلكتروني لتحريف التوجه العام عن العدو الأول الأزلي والثابت في الذكرة التراكمية العربية والإسلامية بزرع الشقاق والفتن وتشتيت التوجه الثابت بعده توجهات حزبية وطائفية.
الإرهاب الرأس مالي
يتصارع العقل الجمعي الغربي مع ما أفرزته عقدة الذنب لدى الإمبريالي، وتصادمت مع ما أنتجته من معرفة وسُلطة إرهابية، يتزامن ذلك مع انتشار المظاهرات المناهضة للقمع والهيمنة الأمريكية وسياسيها المؤيدة واللا مشروطة للكيان المحتل. وهناك حدثان مهمان؛ أولها: انتشار رسالة ابن لادن للشعب الأمريكي، وثانيها المقابلة التاريخية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع المذيع الأمريكي تاكر كارلسون والتي تخطت حاجر 200 مليون مشاهدة.
وتتلخص تلك المقابلة في أنها أسهمت في تفكيك وزعزعة الثقة في العقل الجمعي الغربي وانتشار واسع لفرضيات المؤامرة من هيمنة اللوبي الصهيوني والدولة العميقة. كل تلك ما هي إلّا مؤشرات على دخول العالم إلى حقبة جديدة ومُغايرة تتجاوز الحقبة الاستعمارية وما بعدها وما بعد الحداثة التي عانها أسلافنا.
سيتجاوز العالم النظام المعرفي الاستهلاكي القائم على مراكز البحوث ومعاهد الدراسات الأمريكية والأوروبية التي تخدم الإمبراطورية الرأسمالية، وعلينا كشعوب عربية التحرر من جلد الذات والاستسلام لمرض "القابلية الاستعمار".
"قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ"
كفار قريش لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وعلى الشعوب والأنظمة العربية المكتفية بالمشاهد بما يحدث في غزة ورفح من تطهير عرقي وزر لن يُمحى أما أن تنفض هذه الشعوب اتكاليتها وتقضي على داء استشرى واستوطن في جسدها طوال قرنين وإما أن تقبع في قالب من العار المتوارث عبر الأجيال.
لن يتحقق التغير بمؤسسات وإدارات وكيانات وظيفية يتطلب التغير اصلاح ذاتي فالإرادة الشعبية للبقاء تتطلب ثورة فكرية وتجديدا سلوكيا مغايرا بعيدًا عن الاستسلام والمسالمة الطوعية للاستكانة.
وأولى خطوات التحرير، تتمثل في الاعتراف بالداء والعمل على التخلص منه، وتصفية الفكر من "قابلية الاستعمار"، ولن يتحقق ذلك إلّا بإعادة النظر إلى منظومة التعليم ووضع مناهج تُحفِّز الاستنباط والتحليل والتركيب والاستنتاج والاستقراء، وخلق الدافعية للإبداع والتجديد في نفس المُتعَلِم.