علي بن مسعود المعشني
حين أتذكر الكويت فإني أستحضر في ذهني كيف تتحول الفكرة إلى دولة، وكيف يتفوق الضجيج إلى هدوء عاصف مثمر، وكيف تكون معاني الإنسانية العميقة، وكيف كان العربي متصالحًا مع عروبته وباحثًا عن صيت يُخلده ويكتب له عُمرا آخر بعد رحيله عن الحياة، وهو عُمر السيرة الحسنة.
ليست لي ذكريات شخصية بالكويت، سوى مرور عابر عام 1972م، برفقة عائلتي قادمين من عدن في طريقنا للالتحاق بأبي المغترب بدولة قطر، حيث نزلنا بفندق فينيقيا بشارع الجهراء لمدة يومين في انتظار رحلة إلى الدوحة. حيث شكلت تلك المحطة العابرة التقاطات بعيون طفل قادم من بيئة جبلية ظفارية، إلى عوالم مدنية جديدة تمثلت في عدن والكويت، وانطبعت في ذاكرتي بصورة "فوتوغرافية" لا تزول. ولكن الكويت شكلت جزءًا مهمًا من ذاكرتي لاحقًا، وتقاسمت قسرًا مساحات من تكويني الثقافي والفكري، كدولة عربية رائدة في المنطقة والوطن العربي الكبير.
فالكويت في قناعاتي هي فكرة جميلة شكلتها عقول الفئات التي سكنتها من نجد والعراق والساحل الفارسي، حيث تزاحمت تلك العقول فأنتجت دولة عصرية كان لها السبق والريادة في العديد من الأفكار التنموية والإنسانية، بدءًا من الفكر والثقافة والمسرح والفنون، وانتهاء بالرياضة.
فقد كانت الكويت سباقة في ترجمة ثقافة الدولة العصرية على أرض الواقع، حيث وجدنا الدستور ومجلس الأمة والصحافة الحُرة، هذا الثالوث الهام الذي أوجد بالنتيجة قواعد دولة عصرية متصالحة مع نفسها ومع مكوناتها ومع مقدراتها وقدراتها إلى حد كبير ولا فت.
ولم تنسى الكويت المعاصرة رسالتها الإنسانية تجاه الأشقاء والأصدقاء، حين شكلت الصندوق الكويتي للتنمية والذي كان صندوقًا ذا بُعد رسالي من الكويت إلى العالم. وهذا الصندوق الرسالي لم يكن ليتشكل ويقوم بدور الدبلوماسية الشعبية/الاقتصادية بنجاح لولا وجود مرجعية ثقافية قيمية في العقل الجمعي الكويتي الساعي للخير والنفع بفطرته. فقد كانت الكويت بمثابة "كعبة مضيوم" لكل من ضاقت به سُبل العيش، وسُبل الفكر، وسُبل الثقافة، وسُبل الفن، حيث توفرت بها كل أسباب الجذب لتلك الفئات من أقطار الخليج والوطن العربي.
لهذا حين عاشت الكويت محنة الغزو والاحتلال، لم يشعر من عرف الكويت من العالم بأن جغرافية احتلت ولا شعبا تهجر، بل شعروا بأن الإنسانية والثقافة والفكر والتعايش والفن في خطر، وأن الوقوف مع الكويت وتحريرها هو بمثابة تحرير لتلك القيم وانتصار لها.
فقد كانت الكويت تقود ضجيج الفكر والفن والثقافة وحرية الرأي في المنطقة والوطن العربي بصمت وفاعلية معًا، وكانت نموذجًا لنظرية سياسية فريدة وغير مرئية للكثير من منظري السياسة وعلماء الاجتماع السياسي، وهي نظرية "كيف تتحول الفكرة إلى دولة على أرض الواقع".
كانت الكويت بحق نموذجًا للدولة المتصالحة مع نفسها، حيث نبعت سياساتها وترسخت من نسيج قيم وموروث أبنائها، وبهذا تصالح العقل الجمعي مع العقل الفردي وأثمر عن دولة نموذجية تخطت المفردات والقواعد التقليدية لقوة الدولة ونفوذها في تعريفات السياسة والمتمثلة في المساحة وعدد السكان والجغرافيا.
قبل اللقاء.. ستبقى الكويت في ذاكرتي، وذاكرة جيلي، سردية لا تفنى ولا تتقادم ولا تشيخ؛ فالكويت قيمة إنسانية، واستثمار بشري خلاق أنتج دولة نموذجية.
وبالشكر تدوم النعم.