إسرائيل بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

وقع العالم الإسلامي في قبضة الدول الغربية الاستعمارية، التي جاءت من تلك المسافات لتحتل دولًا وتستعمر شعوبًا، وتمتص ثروات، وحاولت أن تلحق عددًا من الدول فتضمّها إليها.

تفاوتت الدول المستعمرة في منهج استعمارها من حيث القوة المفرطة المستخدمة ضد المقاومة المسلحة من سكان تلك الدول، ومن حيث ملازمة الغزو العسكري للغزو الفكري والثقافي، فالبرتغال على سبيل المثال يتبعون قساوة الغزو، والبطش بالسكان لإنهاء أي شكل من أشكال المقاومة والتحرير حتى إنهم سملوا العيون وجدعوا الأنوف، وقطعوا الآذان إمعانا منهم في التنكيل إلا أنهم مع ذلك عملوا جهدهم في ترسيخ غزوهم الثقافي، ومارسوا أعمالا من التنصير والتبشير، واعتبروا غزوهم لغيرهم مبارك من (الرب) وفيه رضا (الرب) والتبشير منهم بين المسلمين لهدايتهم إلى طريق (الرب)، إلّا أنهم فشلوا في الجانب الثقافي فشلا ذريعا خاصة في الجزيرة العربية.

الاستعمار الفرنسي لا يقل شدة وعنفًا مُفرطًا عن الاستعمار البرتغالي، فهو مارس القسوة على سكان البلاد التي وقعت تحت قبضته حتى سقط من الشعب الجزائري ما يقرب من مليون ونصف من القتلى، الذين قاوموا المستعمر، وحرصوا على تخليص الأرض والعرض من نير الاحتلال.

وكذلك فإن الاستعمار الفرنسي حاول جاهدا القيام بـ"الفرنسة"؛ أي تحويل تلك البلاد المحتلة وكأنها قطعة من أرض فرنسا خاصة في المجال الفكري والثقافي، وحاصرت لغة السكان الأصلية سعيا منها في نشر لغتها، وهو لم يزل باديًا في شمال أفريقيا التي تحاول إعادة العربية وتمكينها بين أهلها وذويها؟! وهذا يدل على العنف المادي والمعنوي الذي مارسه المستعمر الفرنسي.

يبدو أن هذا النوع من الاستعمار أَلَّبَ عليه السكان، فلكل فعل رد فعل، مساوٍ له في المقدار، ومعاكس له في الاتجاه، فغدت تلك الشعوب كارهة لذلك الاستعمار، طاردة له، مبغضة لكل ما يشير إليه ماديًا ومعنويًا، وهو ما يقع اليوم في غرب القارة الأفريقية بالرغم من انتهاء الاستعمار الفرنسي رسميًا.

استعمرت المملكة المتحدة دولا كثيرة ولعقود كثيرة إلّا أن منهجها في استعمار البلدان يختلف كثيرا عن منهج الاستعمار البرتغالي والفرنسي؛ فهو استعمار يعتمد كثيرًا على محاولة التقليل من استخدام العنف المفرط ضد السكان، بل يعمد هذا الاستعمار على استخدام نوع من الليونة، وطريقة من التلطف أي إظهار الجلد الناعم ثم اللسع المميت بعد ذلك، وهذا ما يفسر لنا عدم هيجان كثير من الشعوب والدول على المملكة المتحدة بالطريقة التي هاجت فيها على البرتغال وفرنسا، بل استطاع هذا النوع من الاستعمار تألف قطاع من الناس، وبذلك فهذا النوع من الاستعمار "الذكي" هو أخطر أنواع الاستعمار، لأنه أشبه ما يكون بالحية، ذات الملمس والجلد الناعم إلا أن لسعتها إلى القبر مباشرة.

تلجأ بريطانيا أيضًا في استعمارها على استثمار نقاط الضعف في تلك الدول سواء أكانت مناطقية جهوية أو دينية أو طائفية أو عرقية أو أقليات، فتضرم النار في تلك الدولة عن طريق تحريك تلك الأدوات، فتضطرم النيران بين سكان تلك الدولة، وإذ بالسكان يتحاكمون إلى محتلهم لعله يوجد الحلول لهم؟! فيغدو المستعمر البريطاني ـ صانع مصائبهم ـ الرجل المخلص لتلك الدولة من تلك الفتنة؟!!

أما الولايات المتحدة الأمريكية فإنها تثير الناس عليها منذ أول وهلة، ويجمع السكان في تلك الدولة على الضيق منها منذ أن تنزل أقدام جنودها فيها لأن طريقتها في محاولة السيطرة على الدول استخدام القوة البرية والبحرية والجوية والتدمير الشامل عن طريق أنواع من القنابل والقذائف التي تمتلكها إلى أقصى حد ممكن لذا يسهل اجتماع الناس على الرغبة في التحرر منها، كما يسهل إقناع السكان بالانضمام إلى إعلان المقاومة المسلحة ضدها وهو ما كان منها في أفغانستان والعراق على سبيل المثال.

استعمرت المملكة المتحدة فلسطين التاريخية، وشملتها بالوصاية من عامي 1920 إلى 1948، ورأى الفلسطينيون من احتلالها الويلات والقمع.

كانت الدول الغربية تداولت مشكلة وجود اليهود في الغرب وكيفية إخراجهم منه، وإبعادهم عنه، فقد ضاق المجتمع منهم وبتصرفاتهم، ورأى أن خير وسيلة لسلامة مجتمعات الغرب وضمان استقرارها هو البحث الجدي عن وطن لهم، وكانت هناك عدة جهات وفي قارات مختلفة لاختيار واحدة منها لتكون الوطن البديل لليهود.

فلسطين التي كانت تستعمرها المملكة المتحدة مهيأة لاستقبال أولئك، وتمكينهم منها، وذلك لأسباب سياسية منها وجود الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقدرته على تمهيد الأمر لليهود للاستقرار في فلسطين، فعمد على تشجيع هجرتهم إليها، واستخدام مختلف المغريات لذلك؛ بل إن وزير خارجية بريطانيا (بلفور) قطع وأمضى وعدًا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ولعل هذا أول وعد في التاريخ السياسي الحديث يتضمن قيام المحتل بالتعهد لقوم آخرين بإنشاء وطن لهم على أنقاض شعب محتل، هو مالك الأرض وصاحبها، ومن هنا صار مثلا: "أعطى من لا يملك من لا يستحق".

كانت بريطانيا السبب المباشر في مأساة الفلسطينيين منذ تلك التاريخ، وهي وراء بقائهم في المنافي والملاجيء ودار المهجر وفي مختلف القارات وبعيدًا عن أرضهم، وتنعم إسرائيل بأرض غيرها أي أن المملكة المتحدة ربت إسرائيل ورعتها وكانت سبب ولادتها.

كان عام قيام إسرائيل عام 1948 عام النكبة بالنسبة للفلسطينيين، وهو عام الميلاد بالنسبة لإسرائيل، ومع ذلك فإن الدور البريطاني لم ينته عند ذلك التاريخ، بل استمرت المملكة المتحدة تدعم إسرائيل في المحافل الدولية، وحتى الساعة فإنها تدعم إسرائيل في الحرب على الفلسطينيين، والتي اندلع لسانها في السابع من أكتوبر عام 2023.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فإنها خلفت المملكة المتحدة في تمويل إسرائيل بمختلف أنواع الأسلحة، واتخذت قرارًا بجعل إسرائيل الأولى في منطقة الشرق الأوسط قدرات تقنية وعسكرية، وألزمت نفسها بالدفاع عنها ومنع الاعتداء عليها.

الولايات المتحدة عضد إسرائيل في المحافل الدولية، فلا تكاد أمم الأرض تناقش قرارا من أجل عرضه في مجلس الأمن الدولي للتصويت عليه حتى تعمد أمريكا على نزع الدسم منه، وجعله قرارا عائما لا يدين إسرائيل، بل يساوي بين صاحب الحق وبين المحتل.

وإذا عجزت الولايات المتحدة من منع القرار الذي يدين إسرائيل من التصويت عليه فإن الولايات المتحدة تضمن لإسرائيل إبطال مفعوله باستخدام حق النقض "الفيتو".

وفي الحرب الإسرائلية الحالية على الفلسطينيين، فإن الحج إليها من أجل تأييدها لم يتوقف من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، فقد قام بزيارة إسرائيل بعد السابع من أكتوبر الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء بريطانيا، وتقاطر عليها وزراء الخارجية، وتدفقت كسيل منهمر التصريحات الواردة من المملكة المتحدة والولايات المتحدة المبررة لإسرائيل في ما تقوم به في حربها من قتل وتدمير وتهجير وانتهاك لحقوق المرأة والطفل والإنسان والبيئة.

إن هذا الثنائي الغربي يتحالف مع إسرائيل بشكل مبالغ فيه، وهما يصران على ضرورة بقاء إسرائيل أعلى من جيرانها، وفوقهم تقنيًا وعسكريًا.

الولايات المتحدة ابتدعت أمرًا آخر وهو جبر الدول أو الضغط عليها من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وهذا الضغط يكون عبر مؤسسات مالية أو بضغوط عسكرية، وهو أمر غير معهود فقيام العلاقات بين بلدين في الأصل عن تراض بينهما، وبعد دراسة المردود والفائدة من إقامة العلاقات أما أن تجبر الدول على إقامة علاقات وهي غير راغبة في ذلك فهذا أمر وثقافة جديدة في العلاقات الدبلوماسية.

إنَّ عدم إقامة العلاقات بين بلدين لا يستلزم عدم الاعتراف بوجود أحدهما، ففي العالم عشرات أو مئات من الدول قائمة، ولها مندوبها في الأمم المتحدة إلّا أنها لا تتبادل السفارات والعلاقات الدبلوماسية بينما في مسألة إسرائيل تقوم الولايات المتحدة بالضغط على الدول من أجل إقامة علاقات مع إسرائيل؟!

إن أمر إسرائيل كله عجب، فنشأتها عجب عن طريق وعد بلفور الذي لا يملك، وإقامة علاقات معها أمر عجب فهو بالضغط والقوة، واحتضان الغرب لها ومنه المملكة المتحدة والولايات المتحدة والتعهد لها بالتفوق التقني والعسكري والحماية وتزويدها بمختلف أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، واستثنائها من القوانين الدولية أمر عجب.