التعليم المستدام (3-3)

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

يُولي العالم اهتمامًا واسعًا وكبيرًا بالتعليم؛ إذ ترصُد الدول موازنات ضخمة من أجل تعليم أبنائها، لهذا تضاعفت الحاجة إلى التعليم وتطويره رغم وجود عوائق اقتصادية وتكنولوجية حالت دون المضي به بعيدا، لكن الكلام عن التعليم ومشكلاته وتطويره مقبلات تثير الشهية، في الوقت الذي بدأت المعاقل الأكاديمية تمتص العقول المهاجرة من هنا وهناك والتي لم يتم توفير المناخ الملائم للإبداع والابتكار لعلمائها وباحثيها.

وفي هذه الحلقة من سلسلة مقالات "التعليم المُستدام"، نستكمل خطوات رسم خارطة الطريق من أجل تحقيق تعليم مستدام ومعزز للمهارات على النحو التالي:

9- تنويع الأهداف التعليمية: غالبا ما تكون الأهداف أن يعرف الطالب أو يفهم كذا وكذا، ليس المطلوب المعرفة والفهم في القرن الحادي والعشرين فقط، فهذه أدنى مستويات أهداف التعلم والتعليم، لماذا لا تكون الأهداف أن يطبق، يقارن، يحلل يكتشف، يقوم ويحلل، يستنتج. وهذا ما أشار إليه هرم بلوم المعروف في الأوساط التربوية، والذي أوضح فيه أن عمليات التعليم تبدأ بالتذكر والفهم لتنتقل للتطبيق والتحليل والتقويم والابتكار؛ فالاستمرار على التركيز على المستويين الأوليين سوف يخلق طلابا غير مستقلين عن المقرر الدراسي والمعلم وغير قادرين على التعلم الذاتي ومواكبة ركب الحضارة المتسارعة والتأقلم مع مستجدات الحياة وتقلبات العصر الهائلة التي تنتظرهم في المستقبل القريب قبل البعيد، "إننا نريد أناسا لديهم الجرأة على النهوض للتحديات والرغبة في المبادرة باستمرار" (روبرت فينسترا). فنحن نعدهم للمواجهة المبكرة للتحديات والمصاعب التي سوف تقابلهم، وذلك بلا شك سيدربهم على صقل مهاراتهم وتنمية قدراتهم، في تناغم مستمر مع ضروريات الحياة، ومتطلبات المجتمع.

10- إشراك المتعلمين في صناعة القرارات التعليمية: فما أجمل أن يكون هناك ممثلين من الطلبة والطالبات بنسبة من كل تخصص في اجتماعات مجالس الكليات والجامعات ومجالس التعليم العالي في كل قطر من أقطار عالمنا المترامي الأطراف، لنستفيد منهم ونعدهم للمستقبل، ليكونوا قادرين على صنع القرار. لا نعدهم ليكونوا منفذين فقط. (الديمقراطية في إدارة المؤسسة التربوية). الطلبة شركاء في نجاح العملية التعليمية. فالعمل الحقيقي للجامعة هو إطلاق القدرات القيادية لكل فرد، من ذلك تطلق جامعة ستيندن التي يدرس فيها أحد عشر ألف طالب في هولندا على نفسها جامعة قيادة وتعرف القادة على أنهم أناس "يتصرفون وفقا للمبادئ العالمية، ويتحملون المسؤولية، ويقدرون الاختلافات لدى الناس، ويتعاونون تعاونا إبداعيا، ويعملون على تطوير أنفسهم" [كوفي، ستفين آر، البديل الثالث:253]، تقول ساندرة لوني: "نحن نبني بيوتا لنسكن بها أما الجامعات فهي بيوت للأفكار. نحن نبني جامعات لكي تسكن بها الأفكار"، فكيف يتم ترجمة تلك الرسالة في واقعنا إلى واقع عملي. يقول البلام، "متى آمنّا بأن التعليم احتضان التنوع وتقبل الآراء المتضاربة، وتسامح مع المعارضة واعتراف بأن الحقائق ليست كلها مطلقة، وأنه ثورة العقل على الماضي ليحاكم به الحاضر منتجاً المستقبل، استطعنا من خلال ذلك أن نبني عقولاً ونفوساً تصارع الجبال وتؤسس الأوطان".

11- تعزيز دور الجامعات والكليات فيما بعد التخرج من عمل لقاءات وتواصل مع الخريج. وفتح قنوات التواصل بين جهات التوظيف والكلية والجامعة لمعرفة ما ينبغي أن يتوفر لدى الخريج من مهارات صلبة وناعمة ليتم تزويدهم بها في مقاعد الدراسة، وأخذها في الحسبان أثناء تصميم المقررات الدراسية والاختبارات التحصيلية وفي بيئات التعليم في طرق التدريس والتدريب المناسب، لطمس الهوة والفجوة الحاصلة بين التعليم في الأوساط التربوية وبيئات العمل، وتفعيل ما يُسمى باستراتيجية التعليم القائم على المشاريع وإتاحة الفرصة للطلاب للتطبيق العملي وعمل مشاريع عملية أثناء الدراسة كتطبيق للعلوم والمعارف.

12- تعزيز استخدام التعليم الإلكتروني (E-Learning)، والتعليم المدمج في مؤسسات التعليم من خلال لوائح وأدلة تنظيمية تحدد آلية تطبيقه بشكل كُفء وفعال، ليعمل بالتزامن مع التعليم وجهاً لوجه أو التعليم المباشر، وعمل شراكة وتعاون مع شركات الإتصالات بغرض تحسين جودة خدمتها وتوفير بنية تحتية تكنولوجية قادرة على الإرتقاء بالتعليم، وتدريب وتأهيل الهيئات الإدارية والتدريسية على التعامل مع المستجدات الحديثة ومواكبة عالم التقنية والاتصالات، لتكون جاهزة لمواجهة أي ظرف طارئ لا سمح الله، مثل الأزمة التي واجهت القطاع التعليمي -بسبب تفشي فيروس كورونا (كوفيد 19). فالتعليم الإلكتروني أضحى ضرورة مستقبلية لما يوفره من جهد وقت.

13- تفعيل نظام رخصة مزاولة مهنة التدريس: وتعتمد على استيفاء المعلم في التعليم العام وأعضاء هيئة التدريس في مؤسسات التعليم العالي لمتطلبات ومعايير محددة تحددها الجهات المختصة، وتعتمد على معايير الجودة التعليمية الشاملة وترتبط بالمعايير الدولية والمحلية والإقليمية، على أن يتم تجديد هذه الرخصة في مدة محددة تحددها الجهات المختصة.

14- الاهتمام بتشييد مجلات علمية محكمة في كل معهد أو كلية أو جامعة تستقطب وتستهوي الكتاب من مختلف أنحاء المعمورة، ورصد جوائز قيمة للمبدعين في المجالات البحثية المختلفة والابتكارات المتنوعة. وتعزيز مكانة البحث العلمي والتدريب على أساليبه وطرقه والتحول لمجتمع المعرفة لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وبما يتناغم مع رؤية تعزيز مؤشر الابتكار العالمي، والعمل على تطوير المجلة والارتقاء بمكانتها بين المجلات العلمية المحكمة وتسجيلها في الفهارس العلمية العالمية وإدراجها في شبكات وقواعد البيانات العلمية العالمية.

يقول علماء النفس إن الشرط الأول للشفاء والنمو هو الصدق أو الواقعية أو الانسجام، فبداية نجاح العملية التعليمية مرهون بناء ميثاق قيمي يتغلغل في ماشطنا التعليمية، ومناهجنا بالشكل الذي يضمن لطلابنا التعليم المستمر والتعلم مدى الحياة، فنحن نعدهم للمواجهة المبكرة للتحديات والمصاعب التي سوف تقابلهم، وذلك بلا شك سيدربهم على صقل مهاراتهم وتنمية قدراتهم، في تناغم مستمر مع ضروريات الحياة، ومتطلبات المجتمع بمدى ارتباطها بتحقيق متطلبات المجتمع وملاءمتها مع طبيعة المتعلمين وميولهم واتجاهاتهم ورغباتهم.

وتعد تلك الخطوة من أوليات تجديد التعليم، وخطوة للخروج من "قرني المأزق" والتي تحتم علينا ضرورة التحول من ثقافة الذاكرة والحفظ إلى ثقافة الإبداع والابتكار، والاتجاه نحو تعليم مهارات بدلاً من معلومات ومعارف، والتي تمكنهم من عبور حدود الزمان والمكان، عوضاً عن المعرفة والتي تولد وتموت بتغير الزمان والمكان، ويبقى منها العبرة والعظة والذكريات الجميلة أو المؤلمة. فمن يفتش وراء النهر ويستنشق من أجوائه عبير المستقبل المعطر بروائح الأمل لحل ومواجهة مشكلات الحياة فالتعليم المستدام هو المستقبل.. لذا "كُنْ أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم" (غاندي).

تعليق عبر الفيس بوك